وكان وداعاً مع يوسف الشيراوي

رحم الله يوسف الشيراوي واسكنه فسيح جناته وغفر له ولنا جميعا، ان الله واسع الرحمة فور رحيم. لقد كان تقاطعي مع الأستاذ يوسف الشيراوي محدود ولقاءاتي معه معدوده وكلها جاءت في سياق منتدى التنمية أبتدأ من عام 1979م عندما كان الرجل وزيراً يملئ الدنيا ويشغل الناس في البحرين. وكان وداعها منذ شهراً بالتمام والكمال

في اللقاء الخامس والعشرين لمنتدى التنمية عندما التقيت بالرجل الفاضل والوقور لقاءات حميمة يتسع الوقت فيها للأحاديث الشخصية والذكريات الجميلة والأفكار المجردة من ثقل المسؤوليات الرسمية وضغوطها، على البعد الشفاف من الإنسان المحجوب قسراً بداخلنا.

وقد كان اللقاء الاول عندما كنت أقوم بدراسة حول أداء المشروعات العامة في دول المنطقة ودورها في التنمية الاقتصادية، وكانت تلك المشروعات العامة في ذلك الوقت هي المشروعات الاقتصادية الكبرى المعتبرة في المنطقة أبتداً من شركات إنتاج البترول وصناعة التكرير والبتروكيماويات والألمنيوم والحديد، إلى الصناديق والأجهزة واحتياطيات الأجيال القادمة التي كانت تودع فيها فوائض عائدات النفط وتستثمر من خلالها. هذا فضلاً عن الحصة الكبرى لملكية الحكومات في البنوك وشركات التأمين وشركات الاستثمار والمشروعات العربية المشتركة وحتى شركات الطيران والاستيراد والتصدير والمواشي. وبذلك كان يتوقف على أداء المشروعات العامة مستقبل التنمية الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل ومستقبل بناء قاعدة اقتصادية بديله، فاستحقت من أبناء المنطقة عموماً ومن القائمين عليها خصوصاً اهتماماً خاصاً قاد فيما بعد إلى لقاء عقد في أبو ظبي أواخر عام 1979م حيث أسفر اللقاء عن تأسيس منتدى التنمية، والذي التقيت الراحل العزيز يوسف الشيراوي عند النشائه وفي الاحتفال بمرور 25 عام على تأسيسه في 14/1/2004 م في البحرين.

عندما التقيت الوزير يوسف الشيراوي أول مرة كان ايضاً رئيس لمجلس إدارة طيران الخليج إلى جانب إشرافه ومشاركته في مجالس العديد من المشروعات العامة. وكانت المقابلة حول كفاءات أداء طيران الخليج. وبعد ان طرحت عليه ما يرد على أداء الشركة من نقد دافع الوزير، فذكرت له أرقاماً وإحصاءات فما كان منه إلا ان طلب مني ان أتوقف عن تسجيل المقابلة على آلة التسجيل كي يكون حديثنا غير رسمي يسمح لتوضيح واقع الحال. وقال لي بحدة ان الذين ينتقدون مجلس إدارة طيران الخليج لا يدركون واقع الحال. فطيران الخليج يتلقى أوامره من خمس دول يصعب في كثير من الأحيان التوفيق بينها وتستحيل على العضو الذي يمثل الدولة في مجلس الإدارة ان يتنازل عن أوامر دولته لانه يحمل امراً لا يستطيع في الغالب مناقشته مع من أمره به. واسترسل في حدته قائلاً ان الذي ينتقدون طيران الخليج لا يعرفون صعوبة إدارة شركة كبيرة مثلها في معطيات وظروف الإدارة في بلداننا. فهناك مئات الرحلات اسبوعياً والاف الموظفين وملايين الوجبات والى جانب ذلك وفوق ذلك هناك إدارة 500 مضيفة من مختلف الجنسيات تتخذ الشركة من البحرين مقراً لهن. وعندما التقيته هذا العام وجدت نفسي أسئله ما صعوبة إدارة 500 مضيفة من مختلف الجنسيات ربما من باب الدعابة وتنشيط الذاكرة بالمقابلة.

وعلى عكس المقابلة السابقة للوزير الذي ملئ البحرين وشغل الناس والذي كان محاصراً بالمسئوليات الرسمية وتبعاتها عام 1979م، كان اللقاء هذا العام مع يوسف الشيراوي الإنسان البسيط الحميم في علاقاته المتواضع في صفاته المعني بهموم البحرين والمنطقة. فقد حضر الرجل الوقور جلسات اللقاء السنوي الخامس والعشرين كلها وكان يوم الخميس يوماً ملئ بالجلسات استمرت من التاسعة صباحاً إلى التاسعة مساءً لم يغيب عن أي منها. وفي أخر جلسة جاء الرجل إليّ بصفتي منسق اللقاء السنوي الخامس والعشرين، حاملاً ورقة ربما كان يريدها ان تكون وصية لبلده وبلدان المنطقة التي أصبحت البطالة إحدى الظواهر الخطيرة فيها، وذلك بعد ان انتهت حلقة النقاش التي قدمها الدكتور حسين المهدي حول أهمية معاجلة مشكلة البطالة وإمكانية تأسيس نظام تأمينات ضدها، وسلمني الورقة الوصية التي كتب فيها: البطالة (من تجربتي): إذا قسمنا الوظائف إلى 10 فئات من عمال النظافة إلى الجراحين، الفئة 2،1 لن تجذب المواطنين بوضعها الحالي: الفئة 3 – ربما تجذب بعض المواطنين: الفئات (6،5،4) يتطلب إحلال المواطنين فيها الاهتمام بالتعليم الفني: الفئة (7) الجامعيون نعم نستطيع إحلال الخريجين محل الوافدين ولكن ليسوا من هم في مستوى خريجي الجامعات الحكومية الراهنة في المنطقة: أما الفئات 10،9،8 سوف نحتاج إلى أجانب إلى جانب المواطنين فيها. وقد كانت هذه الوريقة تعبيراً عن مواصلة الرجل الاهتمام بالشأن العام حتى عندما اصبح لا يقوى على الحديث ويضطر إلى كتابة ما يقول بعد حضور مرهق لم يعد يقوى عليه الجسم الضعيف مصدقاً لقول الشاعر "إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام".

وفي اليوم الثاني كان اللقاء اجتماعياً على الغداء في بيت العم خالد السعدون في الرفاع بدعوة من الصديق جاسم خالد السعدون كعادته للمشاركين في اللقاء عندما يكون الاجتماع في البحرين. وفي هذا اللقاء كان يوسف الشيراوي الإنسان يملك الوقت والرغبة في تعويض ما فاته بسبب مسئولياته الرسمية من لقاءات اجتماعية وكان متألقاً بسيطاً يحكي الذكريات ويعود إلى التاريخ ونحن نستمع إلى حديث الشيخ الوقور. وفي سياق إجابته عن معنى الشيراوي وكيف جاء الاسم قال ان الاسم اشتق من اسم شيروه وهي بلدة على الساحل الشرقي للخليج مقابلة للإمارات على الساحل الفارسي يقطنها عرب فارس وعائلته جاءت من هناك. وحتى افتح الحديث معه قلت له هل سمعت مقولة "جبل شيروه ما طوله، هذا زمان البطولة". قال نعم لان أهل شيره اخترعوا البطولة عندما تحولوا إلى بلدان يختلط فيه العرب والفرس وربما انتقلت منهم إلى الساحل الغربي للخليج في الإمارات وقطر والبحرين. وهنا سنحت الفرصة فذكرته بمقابلتنا عام 1979م وسألته السؤال الذي كان في نفسي ان أسئلة وهو ما الصعوبة في إدارة شئون 500 مضيفة في ذلك الوقت؟ فقال ضاحكاً، هل صحيح لم تفهم!! فضحك وضحكنا معه وكأننا نرى في الرجل يوسف الشيراوي الإنسان الظريف الشفاف الذي ربما حبسته مسئولياته الرسمية الثقيلة عن كثير ممن عرفوه وحجبت عنهم ما في شخصيته من ظرافة ولطف. رحمه الله وأحسن مثواه وإنا لله وإنا إليه راجعون.