الحاج جار الله عمر....كما عرفته

جار الله عمر ضمير يمني عربي مسلم حي، يؤثر بعد استشهاده بقدر تاثيره قبل ذلك وربما اكثر. والذي اغتال-غدراً- جار الله عمر مثل الذي اغتال غدرا علي بن ابي طالب رضي الله عنه، يظن انه يتقرب بذلك الاغتيال الغادر من الله ويعتقد أن في القتل صلاح الامة. ومادرى كم اقترفت يداه من إثم، لأن من قتل نفساً بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا.

 فلو ان قاتل جار الله عمر رحمه الله، رأه واقفا بعرفات كما رأيت، لما أقدم على فعلته الشنيعة. وقد كانت رؤيتي له هي اخر لقاء مع جار الله عمر رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، في حج1421هـ/ الموافق 2001 ولم تكن الأولى، فقد ذهبت بصحبة الصديق العزيز الدكتور محمد عبد الملك المتوكل-شفاه الله- نبحث عن جار الله عمر في معسكر اليمنيين عصر يوم عرفات فوجدناه خاشعاً يلبي ربه ويحمده ويشكره ولا يشرك به أحداً.

اما لقائي الاول مع جار الله عمر فقد كان عام 1996 في القاهرة ولم يكن قد عاد الى اليمن بعد، وكان ماسمعته منه يبشر بالتئام جراح اليمن بعد الأحداث الدامية المؤسفة فيه، وقد علمت منه ان هناك مباحثات وأن عودة قيادات من الحزب الاشتراكي الى اليمن سوف تتم عن قريب لبناء يمن موحد ديمقراطي. وقد عاد بالفعل وانتظمت اللقاءات مع الرجل الذي فرض احترامه على الجميع واستحق الود من كل من عرفه عن قرب.

وفي عام 2001 حضر على نفقته الشخصية وشارك بفاعلية وتواضع في اللقاء السنوي الحادي عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية الذي يتخذ من اكسفورد في انجلترا مقراً له، وكان موضوع اللقاء هو"التحفظات على الديمقراطية في البلاد العربية". ومن أوراق ذلك اللقاء استطعت ان استخرج مداخلتين من مداخلات جار الله عمر ارى من واجبي ان انشرهما قبل ان يصدر الكتاب الكامل عن اللقاء، وذلك لما تعبر عنه هاتان المداخلاتان من حرص جار الله عمر على البحث عن القواسم المشتركة والعمل من أجل المصالحات التاريخية المطلوبة لترشيد الحياة السياسية العربية.

في المداخلة الاولى لجار الله عمر تسأل عما ذكره الدكتور فواز جرجس حول ما يسمى بالصفقة التاريخية او Pact الذي توصلت اليها القوى السياسية المختلفة في بلدان امريكا اللاتينية قائلاً:

"لفت انتباهي ما يشير إليه المحاضر من إمكانية إبرام صفقة بين المعارضة والأنظمة. السؤال هو فعلاً ما هي العوامل اللازمة لذلك، يعني هل الأفراد والمجتمع عندنا يعلمون كيفية الوصول الى ذلكس؟ وهل هو ممكن؟ أنا أرى ان هذا ليس مطروحا من قبل الأنظمة العربية. في المجتمع أيضاً ليس جائزا, السؤال الآن في أمريكا اللاتينية نجد ان هناك قدرا معينا من التطور الاقتصادي والاجتماعي والتراكم السياسي وتراكم نظام القوى. الكنيسة هناك تلعب دورا مختلفا عن دور المسجد أو الحركة الإسلامية، هناك جانب جاد لدور الكنيسة في الديمقراطية. وأيضاً هناك سعي من قبل مؤسسات المجتمع، وهناك مطالبة بالديمقراطية من قبل تلك القوى.

الشيء الأخر أني أعتقد إن الغرب لا يريد ديمقراطية للعرب وليس مهتماً بها، لكنه بالنسبة لأمريكا اللاتينية كان مهتماً جداً لأنه يعتبرها جزءاً من الحضارة الغربية بشكل عام وكان مهتماً باصلاح المكان. أخيراً موضوع الطائفية والعشائرية ليس موجودا في أمريكا اللاتينية. ثم ان المجتمع هناك هو مجتمع يتكون من مهاجرين ليست لديهم بنى تقليدية جامدة.

أنا أعتقد في النهاية أنه ليس أمامنا سوى الوصول إلى الديمقراطية من خلال هذا النوع من الديمقراطية المتاحة، لا يمكن أن نبتدع شيئا آخر، على المفكرين أن يفكروا فيما ينبغي عمله لإعادة النظر في التحفظات الكثيرة التي نراها على الساحة العربية".

وفي الجلسة الختامية للقاء تدخل جار الله عمر قائلاً:

"هل صارت الظاهرة الديمقراطية الآن تمثل قيمة حقيقية لدى المواطن العربي؟ بالمعنى العام ليست الديمقراطية حتى الآن بالشيء الرئيسي لأن العائلة ليست ديمقراطية والمدرسة ليست ديمقراطية. ونحن في النهاية من بيئة ليست ديمقراطية، ان المظاهرات الكبرى التي خرجت في العالم العربي لم تخرج من أجل الديمقراطية بل ربما كانت مناهضة لها .

هل الجمهور مستعد لأن يتحرك بهذا الاتجاه؟ الإشكالية التي يجب أن نعترف بها هي ان الناس تخرج في مظاهرة ضد كتاب ولكنها لا تتصدى لإطلاق سراح معتقلين بدون محاكمة. هذه هي المشكلة. وهذا لا يعني أن الأمور لا تتحرك. بالنسبة للسؤال الثاني عما إذا كان هناك تغيير عند التيارات الإسلامية؟ لقد حدث تغيير بل تغيير كبير، ولكن هذا التغيير حتى الآن مازال دون المطلوب، والحال ما زال مثلما كان، الأهم هو الوصول إلى السلطة لدى الجميع ولم يعمل أحد منا حتى الآن أكثر من ذلك، هذا مثلاً بالنسبة لليمن، الإسلاميون في اليمن عندنا معهم عمل مشترك اسمه النضال المشترك في مواجهة السلطة أو الحكومة لتحقيق المطالب المشتركة، هناك مطالب مشتركة بيننا وبين 90%في تيار الإسلاميين وفي النهاية التيار الاشتراكي والتيار القومي، لكن أيضاً هناك تيار معاكس أخر، وهذا يتطلب في النهاية تطبيق القانون.

كيف يتم الانتقال من هذا الوضع؟ في رأيي ان هذا يتحقق عندما يمكننا جميعاً ان نلجأ إلى القضاء، من أجل حل خلافاتنا. تبقى طبعاً عندنا مشكلة كيف نصل إلى مستوى تداول السلطة بمعنى ان يصل حزب إسلامي أو حزب اشتراكي إلى السلطة ثم يتخلى عنها طواعية، هذه طبعا إشكاليه ثانية، كيف نمارس الديمقراطية من هذا الجانب؟ هذه ليست قضية عربية فقط إنما في أوروبا أيضاُ هناك معركة تغيير لإرساء أسس تداول السلطة وإعادة تداولها سلميا . علينا ان نسلم بهذه العملية ونتعلم كيف نمارسها. في رأيي لا يوجد حل في العالم العربي لتداول السلطة حتى يكون هناك ميزان قوي يتأسس عليه نظام سياسي، المهم ما أريد أن أقوله هو أن عملية التطوير تبدأ في المجتمع المدني من أجل الوصول إلى حل وسط في تداول السلطة والخروج منها واستلامها بالطرق الديمقراطية".

ولعل هاتان المداخلتان تشيران الى اصحاب المصلحة في اغتيال جار الله عمر - سواء كانت هناك مؤامرة او لم تكن. هذا بصرف النظر عن الأداة التي غٌرر بها لتغيب جار الله عمر عن الساحة ووأد دعوته الى المصالحة التاريخية على قاعدة الديمقراطية، قبل ان تصبح تلك الدعوة حقيقة في حياتنا السياسية العربية المضطربة.

وإذا كانت هاتان المداخلتان الشفهيتان أيضاً تدلان على شي فإنما تدلان على وسطية جار الله عمر وعن بحثه الدائم عن قواسم مشتركة على قاعدة الديمقراطية منهجا في الحكم، وثوابت الأمة مقصداً. والتي دفع حياته ثمناً لها. وكم نحن في حاجة لدور المثقف الحاج جار الله عمر حتى تخرج الأمة من أزمتها وترى النور في اخر النفق عندما يصبح إقصاء الآخر سبة واغتياله جريمة لا تغتفر. فلتكن ذكراه لنا حافزاً للسير على طريق الوسطية والسعي الى المصالحات التاريخية اللازمة لاستمرار وجودنا.

رحم الله جار عمر وأدام ذكراه ضميراً حيا نتمثله، تستنير به الاجيال في وطننا العربي وتتخذ منه منهجا في البحث عن القواسم الموحدة للامة، والحافظة بعون الله لوجودها واستمرارها وأداء دورها في الحضارة الانسانية.