عدت حزيناً من اقصر رحلة إلى البحرين
بدعوة كريمة من الجمعيات والشخصيات المنظمة للمؤتمر الدستوري في البحرين، توجهت على رحلة الخطوط الجوية القطرية رقم 154 عصر الجمعة 13/2/2004م، وتمت إعادتي - مع الأسف- حزينا من قبل الأمن البحريني على نفس الطائرة. أقبلت على الدعوة متفائلاً، أحدث النفس عن المستوى الحضاري الذي بلغته لغة الحوار السياسي
في البحرين، تعبيراً عن اختيار ملك البحرين وشعبها في شباط/فبراير 2001، الانضمام إلى معسكر الدول العربية التي تتيح لشعوبها قدراً من الحريات العامة في مجال التعبير والتنظيم.
وهذا القدر من الحريات العامة وان كان لا يرقى بالدول العربية التي اختارته إلى مستوى الانتقال إلى الممارسة الديمقراطية، إلا انه ربما يمهد الطريق إلى ذلك الانتقال. ويسمح للناس ان تعبر سلمياً عن رأيها في القرارات ورؤيتها للخيارات العامة دون رعب من السلطة وخشية من عنفها خارج حكم القانون. ودول هذا المعسكر العربي الناشئ التي تتيح للقوى السياسية والتيارات الفكرية الفاعلة فيها التعبير عن اهتماماتها وتنظيم نفسها في أحزاب أو جمعيات سياسية أهلية، وتسمح لها إجراء الحوار فيما بينها ومن ثم الحوار بينها وبين حكوماتها، هي في تقدير المراقبين للإصلاح السياسي تضم اليوم: لبنان والكويت والمغرب ومصر والأردن واليمن وربما الجزائر والسودان وقد انضمت إليها البحرين منذ أواخر عام 2000م.
وبالمناسبة هذه هي الدول التي بدأ مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية الذي يتخذ من اكسفورد مقراً له وأٌشارك في تنسيق نشاطاته ومنها القيام بدراسات وطنية داخل هذه الدول حول "مستقبل الديمقراطية فيها"، وذلك من خلال قيام باحثين من أبناءها بإجراء الدراسات وطرحها للحوار الوطني الذي لا يستثني أحد ولا يقصي قوة أو تيار سياسي أو فكري مؤثر على الساحة المحلية، وذلك بقصد تنمية رؤية وطنية لتعزيز المساعي الديمقراطية داخل البلد الذي يتيح لمواطنيه حداً أدنى من حرية التعبير والتنظيم السياسي.
ويشير البعض إلى هذه الدول بمعادلة "يقول الشعب ما شاء وتفعل السلطة ما تشاء"، وهذه المرحلة بالرغم من قصورها عن بلوغ الديمقراطية إلا أنها تعتبر عن مرحلة من الحرية متقدمة في الدول العربية، بسبب ما وصلت إليه أحوال البلاد العربية من تردي ووضعته حكوماتها من قيود على المشاركة السياسية الفعالة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات العامة من قبل الملزمين والمتأثرين بنتائجها من المواطنين.
******
كانت هذه الخواطر تمر عليّ أثناء الرحلة القصيرة من الدوحة إلى المحرق وتنير أمامي أفقا من حرية التعبير أوسع يعم المنطقة والبلاد العربية كافة، عندما يسود الحوار بدلاً من الإقصاء. ولم يكن منتظراً ان أتحدث في المؤتمر ولا غيري من الضيوف العرب والأجانب، ولم يكن هناك على جدول أعمال المؤتمر سوى كلمتي مجاملة، يلقي أولها أحد الضيوف العرب والثانية أحد الضيوف الأجانب في جلسة الافتتاح. وكانت دعوتنا كضيوف على المؤتمر تعبيراً عن كوننا أصدقاء لاهل البحرين كلهم ومؤيدين لجهود الإصلاح السياسي فيها. أما جلسات العمل فكان عنوان الجلسة الاولى: الدساتير العقدية: الحالة البحرينية. والثانية: الإصلاح السياسي إلى آين. والجلسة الثالثة: صيغة مقترحة للدستور معدلاً طبقاً للميثاق. ولم يكن في هذا الجدول، في سياق ما نعرفه من حرية تعبير ومشاركة تمتع بها أهل البحرين وضيوفها منذ الاستفتاء على الميثاق عام 2001م، ما يريب. ولم نسمع ان حكومة البحرين منعت انعقاد المؤتمر أو أبدت رغبة في عدم تلبية ضيوف من خارج البحرين الدعوة الموجهة لحضوره، خلال الأشهر الأخيرة التي كان الإعداد للمؤتمر يجري على قدم وساق وعلى صفحات الجرائد وفي الندوات، وياريتها فعلت حتى توفر علينا مشقة السفر ومصاريفه، فما كنا لنذهب لو إننا عرفنا أنها لا ترغب في استضافتنا بما عهدناه من حسن ضيافة واستقبال على ارفع المستويات.
فمنذ شهراً فقط عقد منتدى التنمية لقاءه الخامس والعشرين بحضور اكثر من مائة وخمسين مشارك من أبناء المنطقة لانه عقد في البحرين، وكان موضوعه "إصلاح جذري: رؤية من الداخل" وكانت أول بنود اجندة الإصلاح هي "تصحيح العلاقة بين السلطة والمجتمع" في دول المنطقة، وكان الأخذ بدساتير ديمقراطية في المنطقة منطلقين من العمل بنص وروح دستوري الكويت لعام 1962م ودستور البحرين لعام 1973م، هي سقف المطالب الأهلية في المنطقة في المرحلة الراهنة من مراحل التعاقد المجتمعي المتجدد الذي يعتبر رديفاً لمصطلح نظام الحكم الديمقراطي.
وفي العام الماضي أيضا عقد منتدى التنمية اجتماعه السنوي في البحرين تأيداً لاتجاهات الإصلاح والمصالحة فيها وكان الحضور اكثر من 70 مشاركاً من أبناء المنطقة تعبيراً عن الأمل الذي أوجدته توجهات ملك البحرين الشاب في الإصلاح السياسي. وكان لبعض المشاركين لقاء مع جلالة ملك البحرين بناء على دعوة كريمة منه، لم يكن موضوع الإصلاح السياسي في البحرين بعيداً عنها، بل كانت كيفية العودة للعمل بدستور البحرين إحدى محاور ذلك اللقاء وكان الملك يستمع إلى الآراء، ويطلع على تجربة الكويت من الدكتور احمد الخطيب الذي عاصر انقطاع وعودة العمل بدستور الكويت لعام 1962م دون ان يمس، اكثر من مرة. واخبرنا انه يستطلع آراء الخبراء الدستورين من العرب والأجانب في كيفية العودة للعمل بدستور البحرين. وكان كل ذلك ينبئ ان ملك البحرين حفظه الله، في سعيه للإصلاح ينشد الرأي ويشجعنا على إبدائه بعيداً عن منطق كون الإصلاح السياسي شأنا بحرينيا لا يسمح لأصدقاء البحرين دخولها حتى من اجل الاستماع إلى ما يجري حوله من حوار حضاري رفيع تحت رعاية الملك وبفضل توجهاته الإصلاحية.
وبالمناسبة ايضاً كان لي شرف الحديث مع جلالته خلال ذلك اللقاء حول ما ذكرته في محاضرة ألقيتها بنادي العروبة في البحرين في شهر يوليو/حزيران 2001م، قبل ذلك بسبعة شهور وبعد الاستفتاء على ميثاق البحرين بأقل من ثلاثة شهور. وجاء فيها تحت مدخل تعديل الدستور وفقاً لاحكامه: "في تقديري المتواضع ان أول المداخل الاستراتيجية لتكريس مبادرة سمو أمير البحرين هذه وأضافتها إلى مبادرة عبد الله السالم الرائدة في المنطقة يتمثل في إجراء التعديلات الدستورية وفق المادة رقم (104) من دستور 1973م. لقد توافق أهل البحرين في ميثاق العمل الوطني على إجراء تعديلين دستوريين. أولهما: "تعديل التسمية الرسمية لدولة البحرين بناء على الطريقة التي يقرها سمو الأمير وشعبه". وثانيهما: "استحداث نظام المجلسين، بحيث يكون الاول منتخباً (....) "يتولى المهام التشريعية، إلى جانب مجلس يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم فيما تطلبه الشورى من علم"، كما جاء في الميثاق. وهذان التعديلان ليس ثمة خلاف عليهما من حيث المبدأ بين أهل البحرين، ومن السهل والمناسب إجراؤهما وفق المادة رقم (104) من الدستور بعد عودة العمل بالدستور، وانتحاب المجلس التشريعي. وفي هذا الإجراء إعادة تأسيس سليم للديمقراطية باعتبارها تعاقداً مجتمعياً متجدداً، وتكريساً للشرعية الدستورية التعاقدية التي يمثلها دستور البحرين لعام 1973م.
وقد استندت في اقتراحي على ما جاء في الميثاق وعلى ما نشر من لقاء سمو الأمير آن ذالك مع عدد من وجوه المعارضة البحرينية بتاريخ 8 شباط/فبراير 2001م، بعد ان صرح عبد الوهاب حسين - على اثر الاجتماع- بان أمير البحرين أكد للاجتماع ان "المهمات التشريعية ستكون للمجلس المنتخب فيما سيكون المجلس المعين للمشورة والرأي"، وان سموه قد أكد ايضاً ان "دستور العام 1973 لن يمس" "والتغيير سيكون بموجب الآليات الواردة فيه".
******
في ضوء هذه الخلفية والاهتمام والحب لآهل البحرين وأهلها واولهم جلالة الملك الذي تشرفت بمعرفته منذ مطلع الثمانينيات، كان منعي من دخول البحرين إجراء خارج السياق ولم اكن أتوقعه. ولو توقعته لما ذهبت، وتركت اهل البحرين وشانهم فلن يقدم حضوري ضيفاً، على المؤتمر ولن يؤخر شيء، ولست حريصاً على الخلافات وإنما أسعى دائماً ان ابدأ من منطلق التأكيد على القواسم المشتركة واعمل مع كثير من الخيرين على تنمية خطاب مصالحات تاريخية على قاعدة الديمقراطية.
وقد تذكرت في طريق عودتي من البحرين على نفس الطائرة حزين، ما قاله أخي الكبير والصديق العزيز الدكتور محمد جابر الأنصاري في مقالاً كتبه في جريدة الحياة في صيف عام 2002م حول تمتعي بالحديث عن الديمقراطية في البحرين، فخطر على بالي احتمال ان يكون الأنصاري من أصحاب العيون الحارة وانه من حيث لا يقصد ولا يريد قد إصابتي بعين أو "نظلني" على حد ما نقول في البحرين وقطر.
وعزائي في طريق عودتي من اقصر رحلة قمت بها إلى البحرين التي تضم أصدقاء أعزاء وتحتضن فيها قبر والدتي رحمها الله وأسكنها فسيح جناته والتي اختارها الله في البحرين في مطلع الخمسينيات، ان المنع هو لهذه المرة وبمناسبة دعوتي إلى المؤتمر الدستوري الذي أتمنى له التوفيق والسداد بعد أن علمت بانعقاده، وللبحرين السلام والاستقرار واستمرار الحوار الحضاري الذي كرسته مبادرة جلالة الملك الإصلاحية.