نحو تصحيح العلاقة بين السلطة والمجتمع

أولا: توصيف العلاقة

العلاقة السياسية بين السلطة والمجتمع في دول المنطقة في جوهرها، علاقة الراعي بالرعية وليست علاقة مواطنين متساوين من حيث المبدأ. وكذلك فإن نظرة الأسر الحاكمة لنفسها فيما يخص علاقتها بالبلد، هي نظرة إرث وحق خاص في المال العام وفي الأراضي وتولي السلطة التنفيذية لا سيما المراكز الحاكمة أوما يسمى بوزارات السيادة. هذا إضافة إلى المكانة البروتوكولية والمكانة الاجتماعية والنفوذ على المستوى الرسمي وفي القطاع الخاص.

وقد استمرت هذه العلاقة بين السلطة والمجتمع لفترة طويلة نسبيا، بحكم فاعلية آليات الضبط السلطوي، وسلبية معظم النخب عامة ، فيما عدا قلة اعتبرت منشقة. هذا إضافة إلى استكانة أفراد وجماعات المواطنين نتيجة احتوائهم من قبل السلطة في أغلب الأحيان ومعظم الدول، ولا مبالاة من الوافدين.

ومصدر هذه العلاقة هو قيام نظم حكم فردية وراثية مطلقة اليد في الداخل، منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول وأغلب الأوقات. وقد انبثقت هذه النظم من تراث تقليدي في الملك العربي العضوض الذي يقوم على أساس الغلبة القسرية واعتبار النفوذ مصدراً لجلب المال، والجاه مفيد له على حد تعبير ابن خلدون.

وقد نشأت هذه النظم الحاكمة بفضل تحالفات قبلية وعائلية ومناطقية قادت إلى بروز أفراد منهم، تولوا الرئاسة في أغلب الدول بالتراضي ثم انفردت أسرهم بالحكم والسلطة عندما تحول كبير مشايخ القبائل أو العائلات من مرتبة الأول بين متساوين، إلى حاكم فرد يستحوذ على السلطة من أيدي حلفائه بل حتى اقرب أقربائه وينفرد بتحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة.

وقد تكرست هذه الغلبة القسرية على الحكم نتيجة لبروز ثلاثة متغيرات رئيسية في المنطقة. أولها: معاهدات حماية وتحالف وصداقة مع قوى أجنبية ذات نفوذ عالمي ووجود عسكري في المنطقة ومصالح اقتصادية واستراتيجية ضخمة فيها. ثانيها: فرض الحكام رسوما على الجمارك وعلى النشاطات الاقتصادية قبل عصر النفط (قلاطة الغوص). ومنذ بداية عصر النفط صب ريع امتيازات النفط وعائدات الحكومات من صادراته، في أيدي الحكام الذين اتبعوا سياسات إعادة التوزيع للثروة والنفوذ بما يؤدي إلى تكريس سلطتهم الفردية المطلقة في الداخل. وثالثها: تدفق الهجرة بين بلدان المنطقة ومن الدول المجاورة في البداية، ثم من خارجها بشكل كبير منذ مطلع السبعينيات. الأمر الذي أدى إلى تراجع الدور الإنتاجي للمواطنين عامة. كما تراجعت الأهمية السياسية للمواطنين نتيجة لتفاقم الخلل السكاني وتراجع دور المجتمعات الأصلية في عدد من دول المنطقة حتى أصبحت تلك المجتمعات مجرد أقلية بين أقليات عدة.

وبذلك فقد عملت الطبيعة القبلية التقليدية والوراثية لنظم الحكم في المنطقة إضافة إلى المتغيرات الرئيسية الإضافية المشار إليها أعلاه، على إنتاج وإعادة إنتاج حكم الغلبة القسرية والانفراد بالسلطة وما يؤدي إليه امتلاكها، من ثروة ونفوذ.

ثانيا: أبعاد العلاقة الراهنة وتداعياتها.

أدت العلاقة السلبية الراهنة بين السلطة والمجتمع في دول المنطقة إلى مخاطر كبيرة وكثيرة. وعرضت حكومات المنطقة ومجتمعاتها إلى تحديات لم يسبق مقابلتها، تنذر اليوم بنكوص المجتمعات وتفكيك الدول وضياع هويتها الجامعة. فضلاً عن تعرض المنطقة إلى ضغوط استراتيجية الهيمنة الأمريكية على العالم، واستخدام المنطقة استراتيجياً ونفطياً قاعدة وورقة في الصراع من أجل هيمنة القطب الواحد. وقد وجدت حكومات المنطقة نفسها في موقف الضعيف أمام الإملاءات الخارجية بسبب انفرادها بالسلطة، دون وجود ذريعة عصرية عندها تحد من المطالب المجحفة وتصدها بحجة الديمقراطية.

وقبل بروز هذه المخاطر وأثناء تصاعدها، لم تعد العلاقة الراهنة بين السلطة والمجتمع في دول المنطقة مرضيا عنها من قبل شعوبها. ولا هي أيضا علاقة متسقة مع معطيات القرن الواحد والعشرين، الذي لم يعد مقبولاً فيه لدى شعوب العالم كافة، أن يحتكر فرد أو قلة تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة أو تدعي أسرة مهما كان دورها التاريخي حقوقاً خاصة في المال والأملاك والسلطة العامة.

وبذلك تزايد تآكل شرعية حكومات المنطقة في الداخل وتعرضت سيادة دولها لتدخلات من الخارج، الأمر الذي اضطر الحكومات إلى تقديم تنازلات مجحفة للخارج. كما دفع السلطات في معظم دول المنطقة وفي أغلب الاوقات إلى القيام بتغييرات شكلية لا تمس الفرضيات التي قامت عليها العلاقة المختلة بين السلطة والمجتمع، ولا هي أوجدت وسيلة شعبية لحماية السيادة الوطنية، وإنما جاءت تلك التغييرات لتعترف بضرورة تغيير أسلوب الحكم دون أن تصلحه. الأمر الذي فتح شهية الشعوب للإصلاح دون أن يرويها.

وقد نتج عن ذلك الاحتقان كله في بعض الاحيان بروز حركات تغيير راديكالية تزايد أخذها بأشكال العنف، الذي واجهته السلطة بالعنف كما اعتادت. وصاحب هذا تزايد المطالبين بالإصلاح في السر والعلن، وارتفع سقف مطالباتهم تعبيراً عن قلق موضوعي على مستقبل بلدان المنطقة ومس كرامة أهلها. وإلى جانب هذا وفي اتجاه الضد منه نزع أفراد من المواطنين مستغلين ذكاءهم الفردي ومواقعهم لتحقيق مصالح شخصية غير مشروعة واتخذ البعض توجهات انتهازية تشق الصف الوطني، فتفشي الفساد المالي والإداري واتضح ضعف الولاء الوطني لدى البعض بسبب تقديرهم الانتهازي لمسار الأمور وترجيحهم لضياع مجتمعات المنطقة وتفكيك دولها وتغيير هويتها الجامعة.

ثالثا: أهمية وإمكانية تصحيح العلاقة

إن أهمية تصحيح العلاقة بين السلطة والمجتمع في دول المنطقة تنبثق من استحالة بقاء الأوضاع على ما هي عليه. فهناك ضغوطات كاشفة من الخارج وهناك ضغوطات قلقة من الداخل، نتج عنهما وضع جديد لم يعد معه باستطاعة السلطات في المنطقة أن تحكم بأسلوب حكمها المعتاد. وهذا الوضع يمكن اعتباره وضعا ثورياً ، لا تنفع معه التغييرات الجزئية أو الشكلية استجابة للضغوط الداخلية والخارجية المتضادة في أغلب الأحيان والمتقاطعة أحيانا.

ولذلك أصبح من الضروري أن تجري كل سلطة في المنطقة تغييرات جوهرية، ليست كغيرها من المتغيرات في الماضي، مراوغة يغلب عليها التكتيك والآنية في محاولة للتملص من ضغوط التغيير باتجاه أو بآخر أو بتوازن بينهما. وقد أصبح التغيير استجابة للضغوط الخارجية مصدراً لتآكل البقية الباقية من شرعية السلطة في نظر شعوب المنطقة والرأي العام العربي والإسلامي، نتيجة لتقويضه السيادة الوطنية وتعطيله الإرادة الوطنية. وربما يذهب بالسلطة التقليدية نفسها عندما ينتفي دورها وتصبح عبئاً تاريخياً على الحكم شبه المباشر للقوى المهيمنة... هذا من ناحية. ومن ناحية أخري.... فإن فرض أجندة التغيير من الخارج سوف يقضي على كل طموحات الإصلاح الجذري من الداخل. ويدخل المنطقة في اضطراب ويأس وعدم استقرار، وربما تفكيك لدولها ونكوص لمجتمعاتها وضياع للهوية الجامعة لشعوبها وابتعاد عن عمقها الاستراتيجي، لفترات طويلة من الزمن.

ولمواجهة الضغوط الخارجية فضلاً عن الاستحقاقات الداخلية، فإن كلا من السلطة والمجتمع في دول المنطقة محتاجان ومطالبان عقليا وشرعياً ووطنياً بتصحيح العلاقة بينهما لما فيه مصلحتهما المشتركة. ومن هنا فإن العقل يؤكد وجود مصلحة للسلطة والمجتمع في تصحيح علاقاتهما من أجل حفظ الوجود وتأمين فرص الأمن والنماء في إطار إصلاح جذري يفتح الآفاق لتطور تدريجي في الاتجاه الأسلم والأبقى لأهل المنطقة، مجتمعات وسلطة. وبذلك يمكننا القول أن هناك إمكانية عقلية وضرورة شرعية وداعياً وطنيا، توجب كلها على السلطة والمجتمع تصحيح علاقتهما قبل أن تحل الكوارث ولا ينفع حيالها لوم كل طرف للطرف الآخر على تشدده أو تفريطه. فهل هم فاعلون؟

رابعاً: متطلبات تصحيح العلاقة

التحلي بالإنصاف والعدل والشجاعة في إطار الشعور بالمسئولية التاريخية، هو السبيل لتصحيح العلاقة الراهنة بين السلطة والمجتمع في دول المنطقة. وتحلي قيادات السلطة والمجتمع بهذه القيم الإنسانية والإسلامية الرفيعة قد يكون صعبا – يراه البعض معجزة - ولكنه ليس بالأمر المستحيل ، إذا عرفنا التحديات التي تواجه حكومات المنطقة وشعوبها وتحرينا الفرص التي تعود عليهم من تصحيح العلاقة بينهما. فتصحيح هذه العلاقة  يتطلب نمو إرادة لدى السلطة والمجتمع، بكل ما تحمله الإرادة الصادقة من تصميم على إجراء مصالحات تاريخية حقيقية ترقى إلى مستوى المخاطر التي تواجه حكومات المنطقة ومجتمعاتها.

وأول هذه المصالحات التاريخية الملحة، هي المصالحة مع العقل الذي قيل فيه "حيث يكون العقل فثمة شرع الله"، وبه تتحقق المصالح المشروعة لكل الأطراف.

والمصالحة مع العقل - في تقديري المتواضع - تبدأ بمنهج النظر في سائر شئون المعاملات، حيث يتم البحث عن حل المشكلة أو مقاربة الإشكالية بقدح الفكر وإعمال العقل الذي ليس حكراً على "رجال الدين" أو أصحاب السلطة، حتى يشارك كل العلماء والمفكرين وأصحاب الشان عامة في البحث عن الحل إلى جانب علماء الدين وأصحاب السلطة. وبعد الركون إلى الحل العقلاني بعيداً عن احتكار عملية البحث عن الحل، يوضع الحل العقلاني على ميزان الدين فإن تعارض مع الوحي الإلهي أعيد النظر حتى يتم مقاربة الإشكالية في إطار الشريعة الإسلامية السمحة. وفي رأيي المتواضع أن منهج النظر العقلاني المنضبط بميزان الدين هو ما أخذ به حكماء المسلمين المتجردين، ومنهم الخليفة الراشد عمر بن الخطاب عندما سن الخراج بدل الغنائم، وألغى أعطيات المؤلفة قلوبهم ، وأوقف حد السرقة عام الربادة.

وثاني هذه المصالحات التاريخية هي المصالحة الواجبة، بين التيارات والقوى التي تنشد الإصلاح حتى يتم تعضيد المناشدة للإصلاح بكتلة تاريخية فاعلة وقادرة على تقديم طلب فعال للإصلاح الجذري من الداخل، يتفق على أجندتها أفرادا وجماعات فاعلة من كل من التيار الديني والتيار الوطني بكافة أطيافهما، باعتبار تلك الاجندة أهدافا عامة يسعيان إلى تحقيقها بصرف النظر عن منطلق كل منهما في التوصل إلى ضرورتها.

ومن أجل التوضيح وتجنب سوء الفهم فإن المقصود بالتيار الديني، هم الأفراد والجماعات التي يبدأ بحثها عن حل المشكلات ومقاربة الإشكاليات من النص الديني وتؤسس علاقاتها على أساس الرابطة الدينية وفقا لمفهومها المذهبي. أما المقصود بالتيار الوطني فهم أيضا الأفراد والجماعات الذي يبدؤون نظرهم في المشكلات والإشكاليات ، من تحرى المصلحة الوطنية ويؤسسون علاقاتهم على أساس رابطة المواطنة المتساوية. وجديرٌ التأكيد أن هذا التقسيم النظري لا يعني أن الوطنيين غير متدينين ولا يعني أيضا أن المنضوين تحت التيار الديني غير وطنيين. كما نجد أن أطياف كل تيار من هذين التيارين الواسعين قد تكون أقرب إلى طيف أو أطياف من التيار الآخر، منها لبعض أطياف تيارها وأكثر قدرة على إيجاد قواسم مشتركة معهم.

وثالث هذه المصالحات التاريخية يتطلب أن تتصالح كل سلطة مع مجتمعها وتقر بحقه في المشاركة السياسية الفعالة في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة. ومثل هذه المصالحة الاستراتيجية تتطلب التالي: أ) أن يكون الأفراد والجماعات الذين ينشدون التغيير قد تمكنوا من تكوين كتلة تاريخية فاعلة واتفقوا على قواسم عامة تجمع بينهم، حتى تكون لديهم أهدافٌ مشتركةٌ يتفاوضون عليها مع حكوماتهم. ب) أن تكون هناك مرونة واستعدادٌ للتدرج في تطبيق الإصلاح المنشود بما يحفظ للأسر والنخب الحاكمة وغيرها من الأطراف، مصالحها المشروعة دون رغبة في الانتقام، وإنما استعداداً صادقاً لتجاوز الماضي إلى المستقبل. جـ) أن يتمتع أهل السلطة وبقية الأهالي بقيادات مدركة لضرورة التغيير والإصلاح، ومقدرين لصعوباته والتضحيات المطلوبة منهم والتطمينات اللازمة للمؤثرين على قرارهم، حتى تتم تلك المصالحة التاريخية المنشودة. وفي هذا المقام نجد أن الشطر الذي يقول "لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم" لا تكتمل حكمته إلا بشطره الثاني القائل "ولا سراة لمن جهالهم سادوا".

رابعا: يتطلب تصحيح العلاقة أخيرا وليس آخراً، أن تقود تلك المصالحات التاريخية الثلاث الكبرى، إلى عقد مجتمعي متجدد يجسد تلك المصالحات في دستور ديمقراطي، يؤسس لنظام حكم يضمن مشاركة سياسية واسعة وحقيقية وفعالة. يتم بموجب مؤسساتها وآلياتها تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة. كما يتم بتطبيقها على أرض الواقع، طلاق بائن مع حكم الغلبة القسرية والتخلص من تبعاته وتوابعه. ولعل نموذج دستور الكويت لعام 1962م، ودستور البحرين لعام 1973م، إذا طبعا نصا وروحاً، يقدمان نموذج دستور يصلح ان يكون عقداً مجتمعياَ متجدداً.

----------------------------------------

*باعتباري منسقاً لموضوع "الاصلاح الجذري:رؤية من الداخل" قمت باعداد صياغة اوليه لبند تصحيح العلاقة بين السلطة والمجتمع، وذلك في ضوء اعتذار الزميل الدكتور محمد غباش عن محاولة القيام بذلك كما ورد في مقدمة ورقتة. وارسلت المحاولة اليه فأجابني بالتالي:

صديقي على الكواري!بطبيعة تدريبي الفكري الذي انطلق اساساً من التجربة السياسية في الستينات أجد نفسي متعاطفاً مع توصيفك السابق كله. لكن شكوكي تتصل بالشق المتصل بالينبغيات التي تخللت المادة. وأنا أجد نفسي عاجزاً عن التفاعل معها فكرياً أو عملياً. فصاحب أي أفضلية سياسية لا يمكن للمنطق أو للوازع الأخلاقي أن يدفعه ليتخلى عن مكاسبه. لهذا فلا أجد من المجدي أن نحاججه بالعقل. ما المجدي إذن؟ تحليل المصالح, مصالحه ومصالح خصومه, وكشف التباسات القوة بين الأطراف في نقاطها المتعددة وسيرورتها المكانية والزمنية ومواضع المقاومة والخطر عليهما فيها. لكن هذا يستلزم معالجة أوسع.هذا هو فهمي للأمر. وأتمنى أن أكون مخطئاً. وتقبل خالص مودتي