الخلل السكاني اعتداء على حقوق المواطن - " بلاغ إلى من يهمه الأمر "

نعم الخلل السكاني اعتداء على حقوق المواطن في أي بلد كان. وتفاقم الخلل السكاني في بعض دول الخليج العربي هو اعتداء صارخ على حقوق المواطن مع سبق الإصرار والترصد. فمن حق المواطنين في وطنهم أن يكون لهم دور وان يكونوا هم التيار الرئيسي في المجتمع  وان تكون هويتهم هي الهوية ألجامعه ولغتهم هي اللغة السائدة ومصالحهم المشروعة عبر الأجيال وحماية مصير مجتمعهم من التفكك والنكوص, هي محط الخيارات والموجّه للقرارات العامة وعلى رأسها السياسة السكانية. هذا إلى جانب حقوق الإنسان التي يشاركهم فيها كل من يقيم على ارض وطنهم.

فأين دول الخليج العربي بشكل عام من مراعاة حقوق المواطن هذه. وبشكل خاص أين الإمارات وقطر وربما البحرين من مراعاة حقوق المواطن باعتباره مواطنا واعتباره إنسان ؟

لقد فاجأتني الإحصاءات والتصريحات الرسمية في كل من الإمارات وقطر والبحرين في مطلع 2008, كما سوف تفاجئ المتتبعين الآخرين لمخاطر استمرار الخلل السكاني والداعين إلى تصحيحه. إن هذه الإحصاءات المفاجئة والتصريحات الرسمية التي تؤكدها, تعبر عن توجهات تجارية مخيفة, يمكن أن نطلق عليها " توجهات ما بعد الخلل السكاني" أو زمن التحول والتراجع عن القول بضرورة تصحيح الخلل السكاني.

لقد أصبحت الخيارات والقرارات العامة تبدو اليوم غير معنية بالخلل السكاني وغير مراعية لحقوق المواطن والحفاظ على لغته وهويته ووجوده. وأصبح خيار التوسع غير العقلاني في نشاط العقارات غير المبرر من وجهة نظر وطنية, هو أهم خيارات ما يسمى بالتنمية التي سبق وان أسميتها " بتنمية الضياع ", ضياع الأوطان ونكوص المجتمعات الوطنية وتهديد مستقبل الأجيال المتعاقبة, عندما يصبح المواطنون أقلية في وطنهم ويهمش دورهم الثقافي والإنتاجي والإداري وتصبح أوضاعهم المعيشية رهينة المكرمات والقرارات الإدارية وما تبقى من حماية قانونية هي اليوم عرضه للتغيير في أي وقت.

وعندها يلقى بالمواطنين في أتون منافسة غير عادلة مع نخب الوافدين من جميع إنحاء العالم. منافسة ينتظر أن يتحول بموجبها وضع المواطنين وثقافتهم ومجتمعهم  في الإمارات وقطر على وجه الخصوص, إلى ما يشبه وضع المالاويين في سنغافورا الذي تراجع لصالح المهاجرين الصينيين وأصبح المالاويين السكان الأصليين, في الدرجة السفلى سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.

حالة الإمارات

كان أهل المنطقة في الماضي القريب من مواطنين ومسئولين حكوميين, يحذرون من خطورة الخلل السكاني في الإمارات ومن نموذج دبي بشكل خاص, عندما بلغ عدد سكان الإمارات في عام 2001م حوالي  3.5 مليون وتدنت نسبة المواطنين في السكان إلى 20% ومساهمتهم في قوة العمل إلى 8.7%. وكان من المنتظر أن يصحح ذلك الوضع المختل  الخطر الذي لا نظير له في أية دولة في العالم . ولكن المؤسف أن سكان الإمارات في نهاية 2007م قد تضخم بأكثر من الضعف في غضون 5 سنوات وبلغ ثمانية ملاين نسمة وانخفضت نسبة المواطنين في إجمالي السكان إلى 10% فقط وفي إجمالي قوة العمل إلى اقل من 5%. وأصبح عدد المواطنين البالغين 800 إلفا نسمه,  حوالي نصف عدد الجالية الهندية البالغة 1.5 مليون ,كما ذكرت نشرة The Economist Intelligence Unit  في عددها الخاص بالإمارات في شهر نوفمبر 2007 ,وبذلك أصبح المواطنون أقلية في وطنهم لا يتجاوز عددهم نصف عدد الجالية الهندية المطالبة بالتجنيس.

ومما يؤسف له حقا أن أبو ظبي وبقية الإمارات أصبحت تنافس دبي في نموذجها العقاري وما يؤدي أليه من تفاقم الخلل السكاني. فأبو ظبي على سبيل المثال تخطط لزيادة سكانها من 1.6 مليون إلي 3.1 مليون وفقا لخطتها ألمسماه " رؤية أبو ظبي 2030". وفي تصريح لأحد المسئولين في الإمارات أشار إلى توجه خطر سوف يتم بمقتضاه استقدام مليون صيني , ربما نتيجة لما تقوم به الجالية الهندية من إضرابات وشغب. وكأني به كالمستجير من الرمضاء بالنار.

حالة قطر

وفي قطر التي كان المسئولون فيها ينتقدون نموذج دبي و ينأون بأنفسهم عن تقليده, فاجئني ما حصل خلال الثلاثة أعوام الماضية. فقد بدأت المعلومات المخيفة والتصريحات الرسمية تشير إلي تفاقم الخلل السكاني بشكل أصبح الوضع السكاني في قطر أشبه بالإمارات, وربما يسير بوتيرة أسرع ينافس فيها نموذج دبي.

وما يخيف ليس مجرد الزيادة المذهلة في حجم السكان وتدني نسبة المواطنين فقط وإنما ايضا استمرارية السبب الرئيسي الذي أدى إلى ذلك التفاقم المفاجئ للخلل السكاني في قطر, في وقت كنا نظن فيه أن قطر واعية لمخاطر استمرار الخلل السكاني وأبعاده وتداعياته غير المحمودة العاقبة .

والسبب الرئيسي لهذه الزيادة المخيفة في حجم سكان قطر هي السياسة الجديدة التي قامت بموجبها الحكومة ببيع أراضي عامة, كما سمحت باستملاك الأجانب للعقارات والقيام بالاستثمار العقاري ,ووافقت على منح اقامات مفتوحة لكل من يملك شقة في المناطق المخصصة لشراء غير القطريين. ومن هذه المناطق مدينه الوسيل التي صممت لإسكان 200 إلف نسمه, معظمهم  إن لم يكن كلهم من غير القطرين. الأمر الذي أدى إلى جانب سياسة الاستملاكات, إلى توسع هائل في النشاط العقاري تسبب في إزالة مناطق سكنية جديدة أربكت إزالتها الفجائية حياة المواطنين, حتى أطلقت إذاعة لندن على الوضع "سنامي". هذا إلى جانب ما أدت إليه من استقدام عمالة كثيفة.

وتفيد المعلومات والتصريحات المنشورة في الصحف, أن قطر تخطط لبناء 800 برج تم إكمال 50 برجا منها فقط و150 تحت الإنشاء, وهناك 600 برج ينتظر بناءها في السنوات القليلة القادمة, وكان الله في عون المواطن الذي تحمل وسوف يتحمل كل أبعاد وتداعيات هذا الخيار العقاري المخيف.

ومن تبعات هذا الخيار العقاري الذي ترعاه وتسوقه الحكومة هو الزيادة المخيفة في حجم السكان وتدني نسبة المواطنين. فسكان قطر الذي استقر عددهم في عقد التسعينيات الماضية, و ارتفعت نتيجة لذلك الاستقرار نسبة المواطنين من 28% عام 1993 إلى 31.50% عام 2001, عكس اتجاهه الحميد فجاءه مع الأسف منذ عام 2004 على وجه الخصوص, حيث تضاعف حجم السكان من حوالي 700 إلف عام 2004 إلى 1.5 مليون في مطلع عام2008. وينتظر أن يصل حجم سكان قطر في عام 2012 إلى 2.3 مليون نسمه حسب التصريحات الرسمية.

و نتيجة لذلك تدنت نسبة المواطنين من إجمالي السكان من حوالي 29 % عام 2004 إلى 16% فقط في مطلع عام 2008. أما مساهمة القطرين في قوة العمل فربما تدنت إلى 7% في مطلع عام 2008 بعد أن كانت حوالي 15%.

وللعلم فقد قدر سكان قطر بحوالي 560 إلف نسمة عام 1993, و 600 إلف عام   2001. كما قدر عدد القطرين عام 1993 بحوالي 172 إلف, و190 إلف عام 2001, و205 إلف عام 2004, وبلغ عدد المواطنين 240 إلف نسمه في مطلع 2008.

حالة البحرين

ولعل ما نشر في البحرين من إحصاءات مخيفة تؤكد لنا أيضا أن السبب الرئيسي في تضخم حجم سكان بعض دول الخليج العربي وتدني نسبة المواطنين في إجمالي السكان وفي قوة العمل, هو خيارات التوسع المفاجئ في النشاطات العقارية. فالبحرين مثلها مثل دبي لا تملك صادرات معتبرة من النفط الخام أو الغاز المسال مثل قطر و أبو ظبي, وإنما فتحت المجال لتوسع عقاري على نمط الإمارات وقطر وقامت الحكومة ببيع الأراضي وتسهيل إقامة المدن والمناطق الجديدة وما تتطلبه من تسهيلات الإقامة الدائمة واستقدام العمالة الوافدة بشكل كثيف غير مسبوق في البحرين التي تعاني من بطالة مزمنة وأزمة إسكان بالنسبة للمواطنين.

فقد نشر في صحف البحرين يوم 28/2/2008 بان سكان البحرين قد زاد بنسبة 42% خلال عام واحد,  من 742 إلف نسمه عام 2006 إلى 1.05 مليون عام 2007, نتيجة لتضاعف عدد الوافدين تقريبا حيث زاد عدد الوافدين من 283 إلف إلى 517 إلف. وبذلك تدنت نسبة المواطنين في إجمالي السكان من الثلثين إلى النصف وفي قوة العمل تدنت مساهمة البحرينيين من حوالي 35% عام 2006 إلى 15% فقط عام 2007. هذا بالرغم أن عدد المواطنين قد زاد في عام واحد بنسبة  15% من 459 إلف عام 2006 إلى 529 إلف عام 2007 بسبب سياسة التجنيس الكثيف الذي اتبعته حكومة البحرين , والتي أدت إلي ارتفاع الزيادة السنوية في عدد المواطنين من 2.3% إلى 15%. وفي هذا إضرارا بمصلحة المواطن وتقويض لوضعه مرتين.
من ضيع وطن وين الوطن يلقاه

في الختام وفي ضوء هذه المعطيات والتداعيات المتوقعة لتفاقم الخلل السكاني, وجدت نفسي محتارا في من أوجه إليه خطابي هذا. فقد سبق وكتبت في الموضوع مرارا منذ عام  1981 حين أصدرت كتيبا بعنوان "نحو فهم أفضل لأسباب الخلل السكاني", ولكن لاحياه لمن تنادي. فقررت أن أتقدم ببلاغ إلى من يهمه الأمر واشهد عليهم الله و الأجيال القادمة, وارجوا أن لا يسجل هذا البلاغ ضد مجهول.

ومن يهمهم أمر الحفاظ على الوطن وعدم ضياع الهوية العربية الإسلامية ونكوص المجتمعات الوطنية في دول المنطقة , هم المواطنون جميعا حكام ومحكومين في دول المنطقة ومن بعدهم العرب الأخرين كي لا تضاف نكبة أخرى إلى نكبات الأمة العربية.

وأقول في بلاغي هذا بخطورة ما أكدته الإحصاءات والتصريحات من تدني نسبة المواطنين في إجمالي السكان إلى 10% في الإمارات  و16% في قطر , والى النصف في البحرين  بعد أن كانت قبل عام واحد فقط تساوي الثلثين. أما مساهمة المواطنين في إجمالي قوة العمل فقد تدنت إلى 5% في الإمارات و7% في قطر و15% في البحرين.

وأطالب بسرعة معالجة الخلل السكاني والتصدي لأسبابه المفاجئة إلى جانب أسبابه المزمنة, وإبعاد المسئولين عن تفاقم الخلل السكاني عن مراكز اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات العامة واستبدالهم بمن يرتبط مصيرهم بمصير الوطن.أن متخذي القرارات ومحددي الخيارات العامة هم المصفى (الفلتر) الذي ينقيها من الشوائب.

أما حول السبب الرئيسي لتفاقم الخلل السكاني الراهن هذا بدلاً من تصحيح الخلل السكاني وما يتطلبه من ضرورة عكس اتجاه تدني نسبة المواطنين في السكان ومساهمتهم في إجمالي قوة العمل, فأنني أعيده بشكل رئيسي إلى الخيار الذي تم اتخاذه  ووضعت السياسات لتحقيقه وهو التوسع في بيع الحكومات للأراضي العامة وتشجيع المستثمرين الأجانب على الاستثمار وتسهيل الإقامة الدائمة لملاك الشقق في المناطق الجديدة من غير المواطنين, ورفع الحواجز عن استقدام العمالة الأجنبية اللازمة لبناء المدن والمناطق العقارية الجديدة, دون مراعاة لأبعاد وتداعيات الخلل السكاني.

وتذكر المعلومات المتاحة أرقام فلكية يصعب قرأتها وتخيلها, حول حجم الاستثمار العقاري المتوقع  في دول مجلس التعاون في الوقت الحاضر والذي بلغ 2 تريليون دولار منها  700 مليار دولار في الإمارات وحدها. وهذا الحجم من الاستثمار العقاري سوف يتطلب عمالة كثيفة في مرحلة الإنشاء, كما سيتطلب إقامة وافدين جدد يشغلون هذه العقارات ويشغلونها.

وجدير‘‘بالتأكيد أن تفاقم الخلل السكاني قد حصل بشكل مفاجئ  في دول  تمتلك  فوائض نفطية مثل قطر وابوظبي  وأخرى ليس لديها صادرات معتبره من النفط الخام مثل البحرين وبقية الإمارات.وهذا يؤكد وجود إستراتيجية واحدة غير معنية بقضية الخلل السكاني ولا باعتبارات التنمية المستدامة, تم تطبيقها في الدول الثلاثة المدروسة, بناء على استشارات قدمتها وخطط وضعتها شركات ومعاهد أجنبية, نظرت إلى هذه البلاد كمشروعات تجارية, وليس دول وطنية عليها واجب بناء الدولة وتأهيل المواطن  وتفعيل دور المجتمع وتحقيق التماسك الاجتماعي من خلال عملية تنمية وطنية مستدامة ذات بعد إنساني. عملية تنمية  تكون لصالح أهل المنطقة بأجيالهم المتعاقبة, ويكون دور المواطنين هو الدور الرئيسي في قيادتها وتحديد خياراتها, فالتنمية الحميدة هي التي تستهدف صالح المواطنين بالدرجة الأولي وان يكون المواطنون هم عمادها, وما عداها فإنها  " تنمية للضياع" والعياذ بالله .