في حـب البحـرين - أول المداخل الإستراتيجية للانتقال إلى الديمقراطية
دخلت البحرين منذ شهر نوفمبر 2000 حقبة جديدة ،واخذ سمو أميرها - حفظه الله – منعطفا آمنا باتجاه الديمقراطية لتحقيق الاستقرار والتقدم .وقد عبر الميثاق الوطني عن توجهات سمـوه وبرنامجه السياسي. كما حسمت نتيجة التصويت علي الميثاق قبل طرحه للاستفتاء . وكان ذلك اثر لقاء الأمير مع عدد من وجوه المعارضة البحرينية بتاريخ 8 فبراير 2001، بعـد أن صـرح عبـد الوهـاب حسين - علي اثـر الاجتمـاع – بـأن أمـيـر البحـرين أكـد للاجتمـاع أن " المهمات التشريعية ستكون للمجلس المنتخب فيما سيكون المجلس المعين للمشورة والرأي " ، وان سموه قد أكد أيضا علي أن " دستور العام 1973 لن يمس " "والتغيير سيكون بموجب الآليات الواردة فيه "(جريدة الراية القطرية 13/2/2001م ).
وكان هذا التأكيد و ما سبقه وتلاه من عودة المبعدين وإطلاق سراح المسجونين هو ما تتطلع إليه الحركة الاهليه المطالبة بعودة العمل بدستور البحرين لعام 1973 ، والذي عطلت بعض مواده منذ عام 1975. وبذلك تم التوافق بين أهل البحرين أميرا وحكومة وشعبا وفق ميثاق الشرف هذا علي تجديد البيعة ، وطي صفحة الماضي،والعـودة إلى ما سبـق أن تعاقـدوا عليـه من دستـور وضعتـه جـمعيـة تأسيسيـة منتخبـة، واقره سمو أمير البحرين -آنذاك- وعملت بموجبه حكومتها .
وفي ضوء هذه القراءة ومن منطلق الحب للبحرين وأهله جميعا،اسمحوا لي أن فكر معكم بصوت مسموع حول أول المداخل الاستراتيجية المتاحة لأهل البحرين حتى يتم الانتقال إلى الديمقراطية ويتحقق تكريس الشرعية الدستورية التعاقديـة.وذلك حرصـا علي تعزيـز مبـادرة سمو الشيخ حمد بن عيسي التي ينتظـر أن تضـاف - علي مستـوي المنطقـة – إلـى مبـادرة عبد الله السالم رحمه الله ،عندما تنتقل البحرين إلى الديمقراطية كما انتقلت الكويت وفق شرعية دستورية تعاقدية ملزمة للحاكم والمحكوم.
إن أهل البحرين مهيأون حضاريا وموضوعيا ونفسيا ومصلحيا لبدء عملية تحول ديمقراطي رائد في المنطقة، إذا تم التعاون علي المستويين الرسمي والأهلي خلال هذه المرحلة من اجل تكريس الشرعية الدستورية التي يمثلها دستور البحرين لعام 1973، وتكاتفوا من اجل عودة الانتقال بشكل دستوري سليم إلى الديمقراطية، وعملوا سويا علي بدء عملية التحول الديمقراطي الشاقة وفق شرعية دستور البحرين لعام 1973 باعتباره تعاقدا مجتمعيا متجددا يتم تطويره وفق آلياته.
تعديل الدستور وفقا لأحكامه
وفي تقديري المتواضع أن أول المداخل الاستراتيجية لتكريـس مبادرة سمو أمير البحرين هذه وإضافتها إلى المبادرات الدستورية الرائدة في المنطقة ، يتمثل في إجراء التعديلات الدستورية وفق المادة (104) من الدستور. لقد توافق أهل البحرين في ميثاق العمل الوطني علي إجراء تعديلين دستوريين .أولهما:" تعديل التسمية الرسمية لدولة البحرين بناء علي الطريقة التي يقرها سمو الأمير وشعبه ". وثانيهما: " استحداث نظام المجلسين، بحيث يكون الأول منتخبا " (000)" "يتولى المهام التشريعية ، إلى جانب مجلس يضم أصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم فيما تطلبه الشورى من علم " ، كما جاء في الميثاق . وهذان التعديلان ليس ثمة خلاف عليهما من حيث المبدأ بين أهل البحرين ، ومن السهل والمناسب إجراؤهما وفق المادة (104) من الدستور بعد عودة العمل بالدستور،وانتخاب المجلس التشريعي.وفي هذا الإجراء تأسيس سليم للديمقراطية باعتبارها تعاقدا مجتمعيا متجددا، وتكريس للشرعية الدستورية التعاقدية التي يمثلها دستور البحرين لعام 1973.
كما أن تعديل الدستور وفق آليات الدستور ، فيه ضمان منطقي لضرورة التوافق في المستقبل بين المجلـس التشريعي المنتخب وسمو الأمير علي أي تعديل دستوري، لأن تعديل الدستور من خارج الأحكام الدستورية يفتح مجال الطعن الدستوري ويضر باستقرار الممارسة الديمقراطية وتطويرها في المستقبل.
نظام المجلسين يكرس مفهوم الديمقراطية التداولية
وحسب تقديري المتواضع ، هناك حكمة ديمقراطية في هذين التعديلين، إذا تم أجراءهما وفقا للمادة (104) من الدستور.فوجود مجلس استشاري من أهل الرأي وأصحاب الاختصاص ومن أصحاب المكانة الاجتماعية ورموز المجتمع المدني وأصحاب الدور الوطني المتميز، يفتح المجال للتداول المتأني للخيارات الوطنية من خلال طرح تلك الخيارات علي المجلس الاستشاري أو "الشورى غير الملزمة"لسماع مختلف الآراء و الاجتهادات ومناقشتها في الصحافة والمنتديات والجمعيات المختصة قبل أن تطرح تلك الخيارات علي التصويت في المجلس التشريعي المنتخب أو يتخذ فيها قرار حكومي ملزم.ففكرة توسيع دائرة الحوار وأخذ المشورة والاستماع إلى أراء أصحاب الخبرة و أصحاب الحكمة، تمثل انتقالا مرغوبا يتحقق بموجبه الوصول إلى مرحلة الديمقراطية التداولية، القائمة علي توضيح وجهات النظر قبل التصويت علي الخيارات الوطنية والقرارات العـامة . هـذا بالطبـع إلى جانب الديمقراطية الإجرائية التي تتمثل في التصويت ،الذي هو شرط لازم في الديمقراطية ولكنه ليس شرطا كافيا لسلامة الممارسة الديمقراطية .فالشفافية و الوضوح وسماع الآراء وأخذ مختلف المصالح في الاعتبار هي السبيل إلى ضبط سلطـة التشريع والتنفيذ ، برأي عام تتم بلورته من خلال الحوار الهادئ المتأني وتتضح بموجبه المصلحة، التي هي أولى بالرعاية من وجهة نظر الملزمين بالقرارات والخيارات التي تتخذها السلطة التنفيذية أو التشريعية المنتخبة. وهذا حسب تقديري مما يمكن لمبدأ الشورى أن يضيفه لتقويم الممارسة الديمقراطية.
ولعل ضعف التداول المتأني وانعدام الحوار حول الخيارات الوطنية في تجارب الانفتاح السياسي العربية هو الأمر الذي يحول دون ارتقاء تلك التجارب إلى مرتبة الممارسة الديمقراطية الحقة حيث تقتصر تلك التجارب علي شكل الديمقراطية دون مضمونها لكثرة ما تستخدم التعديلات الدستورية وتسن القوانين المستعجلة وفق ما تمليه رغبة السلطة الحاكمة في احتكار الحكم وضمان عدم تداول السلطة وعدم السماح للممارسة أن ترتقي إلى مرتبة الديمقراطية،باعتبار الديمقراطية مشاركة سياسية فعالة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات من قبل الملزمين بها.
الملكية الدستورية تعزز عملية التحول الديمقراطي
وكذلك فإن تعديل مسمي الدولة من دولة البحرين إلى مملكة البحرين كما يتوقع المراقبون ، وتعديل مسمي الأمير إلى ملك فيهما مضمون ديمقراطي إلى جانب أنهما إجراء مقبول وليس هناك من يعترض عليه. والمضمون الديمقراطي لهذا التعديل يتمثل في تكريس فكرة الملكية الدستورية التي تملك ولا تحكم. وهـذا قد يساعد علي تجنب العرف الذي أخذت به الممارسة السياسية الكويتية، بالرغم من اختلاف ذلك مع روح دستور الكويت لعام 1962م والمادة (56) التي تنص علي أن " يعين الأمير رئيس مجلس الوزراء ، بعد المشاورات التقليدية". ولقد أدى هذا التساهل مع روح الدستور ونصه إلى نشوء عرف أدخل الكويت في مصيدة المجاملات والاعتبارات الشخصية، الأمر الذي أدى إلى استمرار تولي ولي العهد منصب رئيس الوزراء، ولم يتغير شخصه منذ حوالي ربع قرن من الزمان بصرف النظر عن أداء الوزارة. وقد أصبح ذلك العرف مصدر أزمة ليس بين مجلس الأمة والحكومة فقط بل داخل الأسرة الحاكمة والنخب الكويتية الأخرى.
ولعل تكريس المضمون الديمقراطي للملكية الدستورية في البحرين يحميها من نشوء عرف يحول دون تداول السلطة التنفيذية التي تمثلها الوزارة كما يحول دون استمرار التمييز بين وزارات السيادة وغيرها من الوزارات واحتكار الأولي لأفراد الآسرة الحاكمة. أن تكريس مفهوم الملكية الدستورية في البحرين قد يفتح الآفاق إلى الاقتداء - من حيث الشكل فقط وليس المضمون – بالتجربة الملكية في الأردن والمغرب حيث لا يوجد احتكار من حيث المبدأ لرئاسة الوزراء أو وزارات السيادة.وإذا علمنا أن الأمير في البحرين –كما هو في الكويت- رأس السلطة التنفيذية التي يتولاها مع مجلس الوزراء وفقا" لنص المادة (32 فقرة "ب") من الدستور، فإن تداول السلطة علي مستوي رئيس الوزراء والوزراء عامة لا يخل بالتوافق الذي عبر عنه دستور البحرين -وكذلك الكويت -عندما تم إقرار الدستورين وتم الانتقال إلى الديمقراطية .
ولعل البحرين تكون رائـدة في تنميـة مفهوم للممارسـة الديمقراطية الملكية في المنطقة -يكون فيه رئيس الدولة شريكا في السلطة التنفيذية (الوزارة) إضافة إلى شراكته مع السلطة التشريعية عندما يتعلق الأمر بتعديل الدستور وذلك وفقا لنص المواد (33و104) (انظر ايضا المواد "51 و52 و174 " من دستور الكويت ). إن مثل هذا المفهوم التوافقي المرحلي يمكن الاستفادة من العمل به دون أن يؤدي إلى تعطيل مبدأ عدم الجمع بين السلطات ومبدأ تداول السلطة التنفيذية في النظام الملكي الدستوري.ولذلك فإن تعديل مسمي الدولة والأخذ بنظام المجلسين في البحرين يمكن توظيفهما لصالح الارتقاء بالممارسة الديمقراطية في البحرين. وهما تطوران في الاتجاه الديمقراطي الصحيح يقربان الممارسة من مفهوم الديمقراطية التداولية كما يكرسان مفهوم الملكية الدستورية في مقابل الحكم المطلق.
وفي تقديري أنة إذا تم التعديلان وفق المادة (104) من مواد دستور البحرين لعام 1973 ووفق آلياته بعد عودة العمل به، فأنهما سيضعان البحرين علي الطريق الصحيح باتجاه الديمقراطية،التي إما أن تكون خيارا إستراتيجيا أو لا تكون . بل أن الديمقراطية عندما تكون خيارا تكتيكيا ووسيلة للاستفادة من وجاهة الشكل بعد إفراغه من المضمون ، فأنها " ديمقراطية " محكوم عليها بالزوال، وهذا ما يعرقل الديمقراطية ويعرض مستقبل الاستقرار للخطر إضافة إلى ضياع فرص التقدم باتجاه اغتنام فرص الأمن و التنمية وإرساء عملية تنمية شاملة ذات وجه إنساني.
---------------------------------------------------------------
*المقالة جزء من مداخلة قدمتها في ندوة حوار حول " رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية في أقطار مجلس التعاون " في البحرين بدعوة من نادي العروبة بتاريخ 20/6/2001.