العقبات والعوامل المعيقة للتحول الديمقراطي

في سياق استشراف معالم رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية في أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والعمل على تنميتها من خلال الحوار بين المعنيين والمهتمين بالشأن العام على المستوى الأهلي والرسمي …  وبعد ان تم في المقالات السابقة تناول الأهداف الوطنية الكبرى ومكانة الديمقراطية بينها، وأصحاب المصلحة في الديمقراطية، والواقع الراهن للحركة الديمقراطية ، والإمكانيات والفرص المتاحة لتعزيز التحول الديمقراطي … نتناول في هذه المقالة  العقبات والعوامل المعيقة للتحول الديمقراطي… على أن نتناول في مقالة ختامية لاحقة، متطلبات تنفيذ الرؤية المستقبلية.

**********

العقبات التي تقف أمام الانتقال إلى الديمقراطية عديدة كما يتضح ذلك من البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والجيوسياسية الراهنة التي سبقت الإشارة إليها . فالواقع الراهن لتلك البنى التي أسفرت عنها التجارب السياسية المعاصرة لدول المنطقة ، يشير إلى عقبات عصية على التجاوز . هذا مع وجود اختلاف نوعي كبير بين وضع الكويت وأوضاع بقية دول المنطقة بسبب تطورها السياسي وما أسفر عنه من مستوى الحريات العامة التي يتيحها دستور الكويت لعام 1961، وما يوفره بالتالي من إمكانيات شرعية للنضال الديمقراطي ونمو حركة ديمقراطية قادرة على مواجهة العوامل المعيقة لعملية التحول الديمقراطي . وفي تقديري أن أهم العقبات والعوامل المشتركة المعيقة في دول المنطقة بشكل عام تتمثل في التالي:

أولا :  ضخامة مصالح الأسر الحاكمة وما يعود عليها من المال العام كرواتب ومخصصات وعطايا وخدمات، وما يتمتع به بعض أفرادها من قدرة على استملاك الأراضي الشاسعة. هذا إضافة إلى المكانة السياسية التي يتمتع بها أفرادها وتعطيهم الأولوية في تولي المناصب والوظائف العامة فضلا عن الأولوية الأجتماعية المفروضة بقوة الأبرتوكول الرسمي (الشيوخ قبل الوزراء). ولعل نظرة على المناصب العليا في الحكومات وما يتبعها من مؤسسات تبين أولويات أفراد الأسر الحاكمة في تولي الوظائف العامة فضلا عن مواقع ووزارات السيادة . وإلى جانب هذا كله يتمتع أفراد الأسر الحاكمة بشكل عام بمزايا القرب من متخذي القرار . هذا مع اختلاف درجة تلك المزايا من فرد إلى آخر ومن بلد إلى آخر ، الأمر الذي يجعل كل رجل أعمال أجنبي أو محلي محتاج إلى استخدام ذلك النفوذ من أجل الحصول على الأعمال لاسيما المتعلقة منها بالدولة أو التي تحتاج إلى ترخيص وموافقات الحكومة للقيام بها أو تزويدها بالخدمات و التسهيلات.

وتضاف النخب الأخرى من وزراء وكبار موظفين وسماسرة الأعمال والعمولات (مواطنين ووافدين)، إلى أصحاب النفوذ " الجالب للمال" . ولعل نظرة إلى الثروات الكبرى وإلى ملكية وعضوية مجالس إدارة الشركات الكبرى الفردية منها والمساهمة العامة تشير إلى العلاقة بين النفوذ في السلطة والمكانة في القطاع الخاص . هذا بالرغم من أن احتمالات تعارض ذلك مع المصلحة العامة بل تعارضه مع نصوص دستورية وقانونية سارية المفعول . وهنا يمكننا توصيف العلاقة بين السلطة والثروة بما وصف ابن خلدون الدولة السلطانية غير الديمقراطية به ، حسب ما سبقت الإشارة " الجاه مفيدا للمال" "والتملق مفيدا للجاه". وإلى أن يفك الارتباط بين السلطة العامة والمصالح الشخصية ويوضع حدا لكون التملق سبيلا للسلطة والنفوذ، ويعاد الاعتبار تدريجيا لحرمة المال العام والنفوذ العام، فان هذه العقبة المتمثلة في ضخامة المصالح الشخصية على حساب المصلحة العامة سوف تبقى عقبة كأداء تسد طريق الديمقراطية وتعرقل الانتقال إليها .

ثانيا : ضخامة المصالح الأجنبية . تحظى الشركات متعددة الجنسية الغربية ، بمصالح نفطية وتجارية ومالية كبيرة في المنطقة وأولوية وسهولة في التعامل مع الحكومات على وجه الخصوص . كما تتمتع الحكومات الغربية المهيمنة على النظام العالمي بوجود عسكري ودور أمني ونفوذ ضاغط على عملية اتخاذ القرارات الوطنية . وهذه الأوضاع التي تمد جذورها في التاريخ الحديث لدول المنطقة وتكتسب تأثيرها من حقيقة دورها العسكري والأمني في المنطقة وسيطرتها على النفط ، تشكل عقبة أمام الانتقال إلى الديمقراطية . ويعود ذلك لسببين رئيسيين : أولهما: تقدير القوى الأجنبية لخطورة الديمقراطية الحقة على مصالحها غير المشروعة واحتمال تعارض التوجهات الوطنية مع استراتيجيات الهيمنة التي تسعى إلى فرضها على الدول التابعة . إن الديمقراطية الحقة لابد أن تكون ذات اتجاهات وطنية والتزام بتحقيق المصالح الوطنية ، والتي قد تتطلب من دول المنطقة الاندماج الإقليمي في كيان موحد قادر على توفير الأمن والنماء في إطار التكامل العربي بدلا من الاعتماد على الحماية الأجنبية . وثانيهما : إن التفاوض مع الحكام مقابل تأمين استمرار حكمهم ، أثبت – على مستوى العالم - أنه أيسر وأسهل للقوى الأجنبية ذات الاستراتيجيات المعادية لتطلعات الشعوب وذات المصالح في احتكار الموارد الطبيعية والتجارية والراغبة في احتكار مشتريات السلاح وتشجيعها . ومن هنا فإن الحكومات الغربية في الماضي والحاضر ليست متحمسة بشكل عام للديمقراطية في الدول العربية . هذا إذا لم تكن ضدها في بعض الدول إذا تعذر إفراغ الديمقراطية من توجهاتها الوطنية. وحيث لا يوجد طلب شعبي فعال على الديمقراطية أو حركة وطنية ديمقراطية يحتمل أن توازن ضغط المصالح الأجنبية أو يحتمل أن تكسب الرأي العام الخارجي ضد تصرفات حكوماته في المستقبل، فإن النفوذ الأجنبي سوف يظل عامل إعاقة للديمقراطية .

ثالثا : تفاقم الخلل السكاني واستمرار الخلل الإنتاجي . تشكل أوجه الخلل هذه معوقات حقيقية لحركة الشعوب ونمو قدرتها الذاتية وإرادتها المستقلة اللازمين لتنمية طلب فعال على الديمقراطية . فالخلل السكاني الذي يتفاقم عاما بعد عام كما أشرنا سابقا ، أدى إلى تهميش دور قوة العمل المواطنة وطردها من المواقع المنتجة التي لا تستغني عن إنتاجها الدولة والمجتمع ، وجعل دور المواطنين في اتخاذ القرارات في القطاع الخاص والعام دوراً ثانويا إذا قورن بدور الوافدين . كما أصبح المواطنون في الدول الصغيرة أقلية ، ليست بالضرورة أكبر الاقليات في الدولة . ومن هنا فإن مجتمعات أغلب دول المنطقة كما سبق أن بينا ، لم يعد ينطبق عليها مصطلح المجتمعي بالمعنى العلمي ، وإنما هي إلى معسكرات العمل أقرب . وهذا يؤثر على قدرة المواطنين في الدفاع عن مصالحهم ويجعلهم ، بحكم ضعف تأثيرهم على القرار وهامشية دورهم الإنتاجي الذي لا تعتمد عليه الدولة ولا المجتمع ، غير متمكنين من العمل على تأمين مصيرهم . فالسكان كلهم لا يجمعهم مصير واحد وأخطار المستقبل ليست مشتركة بالنسبة لهم  جميعا. ومن هنا فإن مصالحهم ليست واحدة وأهدافهم العامة ليست مشتركة ومصيرهم ليس متماثل .

وإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة استمرار الخلل الإنتاجي واستمرار الاعتماد على الريع من صادرات النفط واستخدامه لتعزيز آلية الضبط السلطوي كما أشرنا سابقا ، فإن تفاقم الخلل السكاني واستمرار الخلل الإنتاجي يشكلان عقبات أمام الانتقال إلى الديمقراطية ، ولابد من إصلاحهما من أجل تفعيل دور المواطنين وتنمية قدراتهم وتحرير إرادتهم وتمكينهم من تنمية طلب فعال على الديمقراطية . ولعل المفارقة المحزنة هنا تتمثل في تناقض المصالح الأنية لبعض القوى الفاعلة في المنطقة مع متطلبات إصلاح الخلل السكاني والخلل الإنتاجي لما يمثله استمرارهما من دعم لآلية الضبط السلطوي . هذا إضافة إلى إدمان مجتمعات المنطقة للمنافع الآنية التي يتيحهما هذان الخلالان . ولذلك فقد مرة اكثر من فرصة على دول المنطقة لتصحيح كل منهما دون أن تغتنم.

رابعا: عدم التوافق على مفهوم الديمقراطية وغياب العمل بها . أصحاب المصلحة من الأفراد والجماعات في الديمقراطية كثيرون ، ولكنهم غير متفقين على مضمون الديمقراطية ولا يمارس معظمهم الديمقراطية على أرض الواقع على أي مستوى من مستوياتها . فالديمقراطية ما زالت شعار يفتقر إلى وجود مفهوم مشترك متفق عليه بين الداعين إلى الانتقال إليها . كما أن ممارستها في تنظيمات المجتمع المدني مثل الجمعيات والتجمعات المهنية وأحزاب الأمر الواقع وحتى الشركات المساهمة يشوبها الكثير من أوجه النقص. الأمر الذي حد جزئيا من نمو التنظيمات غير الحكومية الحقة –على قلتها-وحال دون اتساعها بسبب جمود القيادات وكثرة الانشقاقات والانفلاق على المصالح الآنية الضيقة.

وقد أدى غموض مفهوم الديمقراطية وغياب العمل بها، إلى صعوبة العمل المشترك بين التيارات والقوى السياسية التي تنشد التغيير وحال دون نمو المجتمع المدني وبروز حركة ديمقراطية. ومن هنا فإن  عدم التوافق على مضمون الديمقراطية بين أصحاب المصلحة فيها وغياب العمل بها في داخل تنظيمات المجتمع المدني، تدعو إلى تحديد مفهوم الديمقراطية وتوضيح مضامينه الدستورية من خلال الحوار بين القوى التي تنشد التغيير الديمقراطي وبين الحركة الديمقراطية وبين الحكومات حتى يتم خروج الحكومة والشعب من مصيدة الحكم غير الديمقراطي،ويسهل أمر التوافق بينهما على الديمقراطية وتبدأ عملية التحول الديمقراطي الطويلة والشاقة ولكن الممتعة ذهنيا وإنسانيا والمعطاءة وطنيا.