خيـر الديـن حسيب : الرؤية والتصميم
تحية ود وتقدير لأخى الكبير الدكتور خير الدين حسيب فى الذكرى الثلاثين لتأسيس مركز دراسات الوحدة العربية. ثلاثون عاماً مثمرة من عمر أبو طارق المديد , قضاها الرجل فى إنشاء هذا الصرح الفكرى العلمي الفريد فى حياتنا العربية الحاضرة. وما كان لغير خير الدين أن ينهض بالفكرة ويحقق هذا الأمل العربى التوحيدى, فى خضم الزمن العربى الردئ.
لقد صادفت سنوات منتصف السبيعنيات من القرن الماضى إرهاصات كمب ديفيد وشهدت توابعها. وكانت بيروت نفسها التى اتخذها المركز مقراً له, تتلقى طعنات الحرب الأهلية. وكان الوضع العربى يشهد تراجعات وأزمات وحروب وصراعات على المستوى الرسمى والأهلى أيضاً, الأمر الذى أدى إلى تفكيك النظام العربى الرسمى وتآكل الإرادة الوطنية وصولاً إلى يومنا الحاضر الذى نرجو أن يكون آخر الأحزان كما نقول فى كل حالة نفقد فيها عزيز.
ولعل الذى جعل خير الدين حسيب ينجح فيما فشل فيه الآخرون, يعود إلى إمتلاكه لثلاث خصال حميدة قلما تجتمع بالقدر والتوازن والتصميم نفسه فى مثقف عربى فى عصرنا الراهن. فقد جمع الرجل بين الرؤية الواضحة والإرادة الحازمة والقدرة على التنفيذ , التى تتجه دون تردد إلى تذليل الصعاب وتوفير الموارد والإمكانيات الضرورية للتنفيذ. هذا مع الحفاظ على مبدأ الخبز مع الكرامة, المبدأ العزيز على نفس أخى القدوة خيرالدين حسيب .
كنت أسمع عن الدكتور خير الدين حسيب بإعتباره رجل إقتصاد وإدارة وسياسة , منذ أيام دراستى فى بريطانيا فى مطلع السبيعنيات. وعندما التقيته فى مقر مركز دراسات الوحدة العربية فى بيروت عام 1980 , بفضل مبادرة من أخى أبو غانم الدكتور محمد الرميحى حيث كنا نحضر ندوة فى الجامعة الأمريكية حول" القيادات فى العالم العربى " .... تعرفت عن قرب على الدكتور خير الدين حسيب وتبين لى منذ اللحظة الأولى الرؤية الثاقبة للرجل ولمست تصميمه على التقدم الى الأمام بالرغم من العوائق والصعوبات .
وأذكر فيما أذكر إننى أختلفت مع الدكتور خيرالدين , عندما أخبرنا أن مجلة المستقبل العربى سوف تتحول من مجلة فصلية الى مجلة شهرية . وكان ذلك الإختلاف فى أول لقاء, حرصاً منى على إستمرار المستوى الفكرى الرفيع للمجلة وإدراكاً لقلة الإمكانيات المالية المتاحة للمركز, وذلك من منطلق " قليل دائم خير من كثير منقطع". ولكن ولله الحمد أن حذرى لم يفت فى عضد أبو طارق , فصدرت المجلة شهرياً وأدت بذلك رسالة عظيمة لا تضاهيها اليوم دورية عربية أخرى فى سعة الإنتشار وكثرت إشارة الباحثين لما ينشر فيها , و هي أيضاً فى المضمون متميزة بالحرص على تناول القضايا المركزية للعرب, إضافة إلى استقطابها لخيرة الباحثين والمفكرين من كل بلد عربى ومن عرب المهجر .
هذا بالرغم من أن مجلة المستقبل العربى حتى يومنا هذا وعبر ثلاثة عقود , مازالت لا تغطى التكاليف المباشرة لصدورها . ولكن هذا ما لايهابه خير الدين حسيب فقط إعتاد القيام بالإدارة تحت ضغط الأزمات .
ومنذ ذلك اليوم تعودت على تبادل الرأى مع أخى الكبير خير الدين دون خشية أن يفسد إختلاف الرأى للود قضية . فقد كنت أطرح رأى و أقف الى جانب الدكتور حسيب فيما يقرره. وكان إرتباطى بمسيرة المركز متصل دون إنقطاع, تابعت نشاطاته وساهمت فيها وتعاونت من خلال ما أقوم به من نشاطات مع المركز وتعاون المركز معي مشكوراً, بإعتبار كل الجهود الخيرة تصب فى مصلحة وطننا العربى الكبير. وقد كان كل ذلك بفضل الطبيعة الخاصة لقيادة الدكتور خيرالدين حسيب أمد الله فى عمره ونفع الأمة العربية بعطاءه الخير الجزل .
وإذا كان لى أن أرصد تطور المركز فإننا نجد إبتداءً أن هناك منظومة المجتمع الأهلى العربى التى إنبثقت من المركز بفضل رؤية خير الدين وعزمه . وقد بدأ بناء هذه المنظومة منذ مطلع الثمانينات, من ندوة أزمة الديموقراطية التى عقدت فى ليماسول فى قبرص عام 1983 بعد أن تعذر عقدها فى أى مدينة عربية . وتم أثناء إنعقادها تأسيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان وتلاها إنشاء جمعيات عربية علمية فى مجال الإقتصاد والسياسة والإجتماع والفلسفة, كما تم إقامة أوقاف لتعزيز جهود عمل المركز والمنظمات العربية التى إنبثقت عنه , منها المؤسسة الثقافية العربية والصندوق القومى . هذا إضافة الى الأوقاف التى تحولت ونمت إلى كراسي داخل المركز نفسه. ولم تتوقف جهود المركز فى تنمبة منظومة العمل العربى الأهلى هذه, حتى وصلت إلى إنشاء المؤتمر القومى والمؤتمر القومى الإسلامى. وأخيراً وليس آخر إنشاء المنظمة العربية للترجمة ومنظمة الشفافية ومكافحة الفساد عام 2005م.
وإلى جانب هذا كله عقد المركز عشرات الندوات الكبرى التى ساهمت فى تحديد وجهات نظر ومرجعيات فكرية عربية, فضلاً عن المكتبة العربية التى تشكلها اليوم إصدارات المركز التى بلغت أكثر من 500 كتاب إلى جانب أعداد مجلة المستقبل العربى التى تغطى ثلاثة عقود دون إنقطاع .
وجديرٌ بالتأكيد والإشادة في سياق ذكر إنجازات الدكتور خير الدين حسيب , الدور الذي قام به في تنمية الوفاق بدل الشقاق بين التيارات والقوى التي تنشد التغيير في الوطن العربي. فقد بدأ المركز بوفاق بين أطياف التيار القومي العربي تمثل في مجلس أمنائه التأسيسي. وتوسع بعد ذلك إطار الوفاق ليضم كافة أطياف التيارالوطني وبعض من الإسلامين في ندوة أزمة الديمقراطية في ليماسول وما أنبثق عنها من مؤسسات وتبعتها من ندوات.
وتواصلت جهود خير الدين حتي تحققت نقلة نوعية في الوفاق عندما بدأت القواسم المشتركة تنموا بين القوى الوطنية والقوى الدينية عموماً والإسلامية منها على وجه الخصوص.وذلك من خلال خطاب ندوة العروبة والإسلام والحوار القومي الديني وصولاً إلى المؤتمر القومي الإسلامي. وقد كان سعي الدكتور خير الدين حسيب في ذلك كله دؤباً واضح التوجه نحو بناء الثقة بإتجاه تكوين كتلة تاريخية من التيارات والقوى التي تنشد التغيير في الدول العربية. وقد كان المركز هو المنبر الذي أنطلقت منه جهود خير الدين حسيب من أجل الوفاق ونبذ الشقاق.
هذا هو الصرح والإنجاز الذى كان الفضل فيه لأخى الكبير الدكتور خيرالدين حسيب ولرؤيته الثاقبة وإرادته الحازمة وتصميمه الذى لاتعيقه الصعوبات ولا تصده وقلة الإمكانيات. فتحية وعرفان بفضل رجل كان عطاءه المتصل عبر ثلاثة عقود من خلال مركز دراسات الوحدة العربية , علامة مشرقة فى زمن صعب.