الواقع الراهن للحركة الديمقراطية

في سياق استشراف معالم رؤية مستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية في أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والعمل على تنميتها من خلال الحوار بين المعنيين والمهتمين بالشأن العام على المستوى الأهلي والرسمي …  وبعد ان تم في المقالات السابقة تناول الأهداف الوطنية الكبرى ومكانة الديمقراطية بينها ، وأصحاب المصلحة في الديمقراطية…نتناول اليوم في هذه المقالة الواقع الراهن للحركة الديمقراطية…. على أن نتناول في مقالات لاحقة العناصر التالية: الإمكانيات والفرص المتاحة لتعزيز التحول الديمقراطي، العقبات والعوامل المعيقة للتحول الديمقراطي، متطلبات تنفيذ الرؤية المستقبلية.

*********

الحركة الديمقراطية في دول المنطقة ضعيفة بشكل عام - مع و جود فوارق من بلد إلى آخر- لسببين جوهريين : أولهما : غياب الأحزاب السياسية التي تعارض قيامها جميع نظم الحكم في المنطقة ، بل تحرمها قوانين أغلبية دولها. وحتى ما هو موجود منها بحكم الأمر الواقع في الكويت ، هو إلى الجمعيات أقرب منه إلى الأحزاب السياسية التي تسعى إلى الوصول إلى السلطة التنفيذية من خلال الانتخابات. و ثانيهما : عدم قدرة الأفراد والجماعات التي تنشد التغير على الانخراط في حركة دستورية ديمقراطية بسبب غياب قواسم مشتركة تغلب أمر التوافق بينهم على دستور ديمقراطي ، على اختلافاتهم الأخرى. وذلك نتيجة ضعف التنظيمات الأهلية وضيق أفق "السراة" ومن يحتلون دور الوجهاء في المجتمع وضعف حس المسئولية التاريخية لدى بعضهم. وإذا كان الشاعر العربي يقول :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم           و لا سراة لمن جهالهم سادوا

فإن الأفراد والجماعات أصحاب المصلحة في الديمقراطية مازالوا - إلى حد كبير ، دون تنظيم ودون قيادات تاريخية ، وما هو موجود من تكوينات و تيارات مازالت تفتقر إلى القيادات الحكيمة القادرة على الارتفاع إلى مستوى المسئولية التاريخية المطلوبة للتوافق على قواسم مشتركة تسمح بقيام حركة وطنية وديمقراطية تنشد الإصلاح في كل دولة وفقا لظروفها . وربما تكون آلية الضبط السلطوي-الريعي التي تتبعها نظم الحكم ، هي أيضا إحدى أهم الأسباب الجوهرية في الحيلولة دون تنمية تنظيمات سياسية و بروز قيادات ديمقراطية ترتفع إلى مستوى المسئولية التاريخية بدلا من "الوجهاء" الذين يهتم بهم البروتوكول والإعلام في المناسبات لملاء الفراغ.
ولعل الكويت هي الأكثر تأهيلا لبروز نموذجا لحركة دستورية ديمقراطية تضم الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير وتسعى إلى تطبيق دستور الكويت لعام 1962 نصا و روحا . إن "اباء" الدستور الكويتي مازالوا هم أو إمتداداتهم السياسية على قيد الحياة، كما إن التجربة السياسية الكويتية قد حققت قدرا من حرية التعبير وإلى حد أقل حرية التنظيم ، يجب استثمارهما للانتقال إلى الديمقراطية من خلال تطبيق دستور الكويت نصا وروحا وتحويل وضع الأسرة الحاكمة إلى ملكية دستورية، تقبل بمبدأ تداول السلطة التنفيذية ولا تعارض التخلص من أي احتكار سياسي واجتماعي واقتصادي يتعارض مع متطلبات الممارسة الديمقراطية .

ولقد برزت ملامح هذه الحركة الديمقراطية في الكويت خلال فترات تعطيل الدستور وحل مجلس الأمة لاسيما في الفترة من 1986-1992، حيث برز في الكويت حزبان قويان "حزب الدستور الديمقراطي"، و"حزب الأسرة الحاكمة"والذي استطاع بالرغم من المعارضة الشعبية القوية العمل من خارج الدستور والدعوة إلى انتخاب مجلس وطني غير دستوري بدلا من مجلس الأمة.

ومما يلاحظ أن الحركة الدستورية الديمقراطية التي تبلورت في الكويت لم تحافظ على تماسكها بعد العودة إلى انتخابات مجلس الأمة . بل إن الخلافات الثانوية بين التيار الديني والتيار الوطني بشكل عام و بين فصائل كل تيار سرعان ما تعود إلى البروز، الأمر الذي يمنع هذين التيارين من العمل على تثبيت دستور الكويت لعام 1962 نصا وروحا وصولا إلى هدف تداول السلطة التنفيذية (عدم احتكار رئاسة مجلس الوزراء ووزارات السيادة )، والانتقال بالتجربة السياسية إلى مستوى الممارسة الديمقراطية الحقة . ومن هنا فإن "حزب الدستور الديمقراطي" لابد أن يستمر حتى تنتقل التجربة الكويتية إلى ممارسة ديمقراطية حقة. ولابد أن يكون هناك برنامج يتوافق عليه الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير وتسعى إلى تطبيق دستور الكويت. وهذا يقتضي التوافق على قواسم مشتركة-منها مشاركة المرأة في الحياة السياسية والمواطنة المتساوية وتسوية قضية البدون- وبرنامج مرحلي ينمي القوى التي تنشد التغيير الديمقراطي ويزيد من قدرتها التنظيمية ويعزز جهودها نحو تثبيت العمل بدستور الكويت وتطبيقه ، وحسم الخيار الديمقراطي والانتقال من خلال الإمكانيات التي يتيحها نظام الحكم الديمقراطي إلى حسم الخيارات الوطنية الأخرى كما دعى إلى ذلك جاسم السعدون في ندوة العلاقات الكويتية العراقية عام 1999.

وتأتي البحرين بعد الكويت من حيث إمكانية تنمية حركة ديمقراطية ووضع طلب فعال على مطالب العودة للعمل بدستور البحرين لعام 1972. ويوجد في البحرين أساس تاريخي لتنمية حركة ديمقراطية يتمثل في "هيئة الاتحاد الوطني" التي مثلت شعب البحرين في الخمسينيات وفي العريضة التي وقعها آنذاك 25 ألف بحريني من أصل 80 ألف نسمة هم كل سكان البحرين عام 1954 ، و ما تلاها من حركة علنية قدمت مطالب لحكومة البحرين والحكومة البريطانية، وتفاوضت حولها حتى عام 1956 عندما تم حل الهيئة واعتقلت قياداتها . كما أن دستور البحرين لعام 1972 يمثل أساسا متينا لنشوء حركة ديمقراطية في الوقت الحاضر. وقد تأكد ذلك منذ عام 1990على وجه الخصوص، عندما تتالت العرايض وتلتها الاضطرابات والمطالبات التي رفعها الأفراد والجماعات التي تنشد التغيير ومازالت تؤكد على مطالبتها بعودة العمل بدستور 1972. وتمثل العريضة الراهنة التي وقع عليها –أيضا- 25ألف من أهل البحرين مظهرا بارزا للحركة الديمقراطية في البحرين. وبالرغم من كثرة المطالبين بالديمقراطية في البحرين إلا أن القيادات التي تتبنى هذه المطالب مازالت غير قادرة على تفعيل طلبها في كل الاوقات لتشكل حركة ديمقراطية او حزب الدستور الديمقراطي. وربما يعود ذلك إلى الإجراءات الأمنية وإلى آلية الضبط السلطوي. كما قد يعود جزئيا إلى قوة العامل الطائفي الديني في الحركة التي تنشد التغير في الوقت الحاضر . الأمر الذي يعطي السلطات حجة مواجهتها وإقناع بعض فئات الشعب وربما الرأي العام العربي الرسمي ضدها . وهذا يقتضي من الحركة الديمقراطية في البحرين أن تعيد طرح نفسها على أساس وطني سياسي واضح ومتوازن يضمن فعاليتها الداخلية ويقلل من معارضتها الخارجية بسبب الطائفية. وفي هذا مصلحة كبرى لشعب البحرين ولشعوب المنطقة ومستقبل الديمقراطية فيها.

وتتفاوت الأوضاع في بقية دول الخليج ، و لكن كلها تفتقر إلى حركة ديمقراطية محسوسة. هذا بالرغم من أن الحركة الوطنية في هذه الدول في الخمسينيات والستينيات كانت تشارك الكويت والبحرين طموحاتهما الديمقراطية. وقد قدمت الحركة الوطنية وإمتداداتها في الحركة العمالية والطلابية في قطر –على سبيل المثال- مطالب وطنية . وفي عقد السبعينيات كانت هناك طموحات الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية ، من خلال تحول النظم الأساسية في قطر والإمارات وسلطنة عمان إلى دساتير ديمقراطية دائمة . ولكن هذه المطالب أيضا تراجعت تدريجيا مع الطفرة النفطية . هذا بالرغم من بقاء الطموحات التي تم التعبير عنها، بالكتابات والدعوات والبيانات والدراسات وكان أبرزها مذكرة المجلس الوطني ومجلس الوزراء في اتحاد الإمارات العربية في عام 1979 ، إلى المجلس الأعلى، ودراسات الإصلاح الإداري التي شهدتها المملكة وقطر وسلطنة عمان في مطلع السبعينيات حتى منتصفها. وكذلك ما عبر عنه منتدى التنمية وغيره من الملتقيات، من أطروحات وتوصيات منذ عام 1979 و حتى اليوم، في ضوء قيام الثورة الإيرانية والحرب العراقية–الإيرانية وإنشاء مجلس التعاون وتراجع أسعار النفط.

وفي مطلع التسعينيات عادت مطالب الديمقراطية و الشورى إلى البروز وعبرت عنها تحركات وعرايض الأفراد والجماعات التي تنشد التغير على امتداد دول المنطقة. و-مع الأسف- لم تلقى تلك العرائض التي لم تكن تسندها حركة ديمقراطية، آذان صاغية بل تم التعامل معها أمنيا وأخفتت الأصوات. وبذلك بقى الأفراد والجماعات التي تنشد التغير في تيارات دينية ووطنية تعوزها التنظيمات، كما تفتقر إلى وحدة التوجه بسبب غياب القواسم المشتركة بينها وعدم توافقها على العمل الفكري والتنظيمي المشترك من أجل الانتقال إلى الديمقراطية . هذا بالرغم من مصلحة تلك التيارات في الديمقراطية وتأكيد كثير من المنتمين إلى التيار الديني والتيار الوطني على ضرورة الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية من أجل تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى .