الشقاق الأهلي من مصادر القابلية للإستبداد

يأتي كتاب "الإستبداد في نظم الحكم العربية المعاصرة"، في سياق مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية الذي يتخذ من اكسفورد مقراً لـه. والكتاب يمثل حلقة وصل إستراتيجية بين ما طرحة المشروع في لقاءاته السنوية الثلاثة عشر السابقة، من طموح عربي مشروع للإنتقال إلى نظم حكم ديمقراطية أسوة ببقية شعوب العالم، وبين مرارة الواقع السياسي العربي الذي يعمه الأستبداد الظاهر منه والباطن، التقليدي والحداثي كما تُفصل صفحات الكتاب.

إن القاسم المشترك بين أنظمة الحكم العربية الملكية منها والجمهورية، هو حقيقة تغلب حكامها القسري على البلدان التي يحكمونها دون تفويض من شعوبها، وحاجة هذا التغلب القسري دائما إلى تجديد آليات الإحتواء وتحديث أدوات العنف وإبتكار سياسات إقصاء المعارضين معنويا ومادياً، واجبارهم على الإنسحاب من الحياة العامة والتزام الصمت السلبي، أو دفعهم إلى الانشقاق والتآمر وربما اللجوء إلى العنف حتى يقعون في مصيدة الدولة ولعبتها المفضلة بإعتبارها الجهة الشرعية لإحتكار العنف.

هذا على المستوى الداخلي أما على المستوى الخارجي فقد وضع الحكام العرب أنفسهم اليوم نتيجة سوء حكمهم، على كراسي لا يديمها إلا التساهل في حق  المصالح المشروعة والأمن الوطني لبلدانهم ، بسبب خضوعهم للإبتزاز الخارجي ونتيجة حرصهم على الحضوة والتمتع بالحماية الأجنبية، التي تم تأسيس بعض نظم الحكم العربية تحت مظلتها وأتقنتها أكثر النظم المستبدة عبر مسيرتها المعاكسة لطموحات شعوبها.

ومن اللافت للنظر في الوقت الراهن توجه بعض النخب والأحزاب، التى أختار بعضُها وأضطر بعضها الأخر إلى الإنشقاق والتمرد على نظام حكم بلده، إلى منافسة الحكام في السعي إلى القوى الأجنبية ودعوتها إلى التدخل، مقتربة في ذلك أحياناً من أجل تنمية قدرتها على منافسة الحكام، من أجندة القوى الطامعة التي لا تخدم في الغالب المصالح الوطنية، بل تقوض الإستقلال الوطني في أغلب الأحول وتعمق الشقاق داخل مجتمعاتها.

هذه الأبعاد المتعددة والمعقدة لظاهرة الإستبداد وحكم التغلب الداخلية منها والخارجية الماضية والحاضرة منها والمستقبلية، شكلت محور إهتمام هذا الكتاب الشامل من حيث الإتساع الجغرافي وتنوع النظم والقوى والموضوعات التي غطاها الكتاب.

وبذلك تحققت صفة الشمول لموضوعات الكتاب من الأوراق التي ناهزت العشرين دراسة وما ورد عليها من تعقيبات رئيسية ومن مناقشات اللقاء الرابع عشر لمشروع دراسات الديمقراطية الذي عُقد في اكسفورد في 28/8/2004م،  فجاءت موضوعات الكتاب المتعددة والمتنوعة تعبر عن إتساع الإهتمام العربي بمخاطر استمرار ظاهرة الإستبداد وحكم الغلبة في الحياة السياسية العربية. وكانت الأوراق والتعقيبات والمداخلات صرخة ألم وإرهاصات معاناة على امتداد الوطن العربي من الموصل إلى نواكشوط ومن وهران إلى مسقط مروراً  بارض الكنانة وبكل دولة عربية دون إستثناء.

-2-

لقد أوضحت محتويات هذا الكتاب الشامل، أن الالام والمعاناة من استمرار حكم التغلب القسري وتفشي الإستبداد في مختلف جوانب الحياة السياسية وتعاظم شروره على حاضر العرب ومستقبلهم، ظاهرة شاملة تعم الدول العربية وتطال مختلف المستويات الأهلية منها إلى جانب الرسمية.

فالعرب جميعاً يُدركون وجود ظاهرة الإستبداد المزمن في حياتهم السياسية، وتقف الجماعات والأفراد عاجزين عن مواجهتها بشكل جماعي فعال يضع حداً لها. والمجتمعات العربية موصومة بعار القابلية للإستبداد. هذا بالرغم من كثرة الأرواح التي أزهقت في المواجهات والملاحقات وتحت التعذيب، وما شهدته المعتقلات سيئة الصيت من أعداد سجناء الرأي والناشطين من مختلف التيارات وسائر القوى السياسية المعارضة لنوع أو أخر من أنظمة الحكم العربية.

ومع كل هذا الإدراك وتلك المعاناة نشهد الإستبداد يستمر ويشتد ونراه يتجدد بمسوغات حداثية وأخرى تقليدية، وتحالفات وتطبيع حتى مع العدو الصهيوني لا يتسق مع شعار الديمقراطية علي حد تعبير عبد العزيز المقالح, التي بدأت تتدثر به أنظمة الحكم العربية وتسبقه عليها تحالفاتها الخارجية المشبوهة. هذا مع كثرة التذمر من الإستبداد على كل مستوى من إستبداد المستوى المتغلب على مقدراته.

فالخارج المهيمن عسكرياً ومخابرتياً وإقتصادياً يستبد بأمر الحكام ويفرض خياراته على قراراتهم. والحكام لشدة رغبتهم في الإحتفاظ بكراسيهم يتسابقون على تنفيذ تلك القرارات وتحرى خيارات القوى المهيمنة من باب الواقعية بصرف النظر على الأخلاقية. وبعد ذلك يتذمرون في مجالسهم الخاصة ويعفون أنفسهم من المسئولية.

وكل حاكم بدوره إيضاً يستبد بقرار غيره من أفراد النُخب الحاكمة وغيرها من النخب المنضويه تحت مظلة الولاء للحاكم من أجل تحقيق المصالح الخاصة أو إتقاء سيفه المسلط. والحكام والنخب الموالية تستبد بالشعوب وبالجماهير الغفيرة كما يسمونها. كما يستبد كل مستوى أهلي أعلى من أحزاب وحركات ونقابات وجمعيات وطوائف وأعراق وقبائل، بالمستوى الأدنى الذي عليه السمع والطاعة، أو ألإنزلاق إلى الإنشقاق والتشرذم وتكريس الشقاق الذي يذهب بالطاقات الأهلية ويجهض إمكانيات نمو قدراتها وتزايد فعاليتها من أجل تفكيك الإستبداد في الحياة السياسية عامة وفي أنظمة الحكم بشكل عاجل لا يحتمل التأخير.

وبذلك يكون مشهد الإستبداد طبيعة ثانية لكل ما هو عربي ويصبح بذلك هزل الشاعر العربي وإستخدامه الإستبداد في غير محله جد، حين قال "إنما العاجز من لا يستبد"، فيكون الإستبداد المكروه شعار الحياة السياسية العربية المعبر مع الأسف عن واقع الحال.

وفي ذلك أيضا تطبيقاً وتصديقاً لطبائع الإستبداد التي عرّاها الكواكبي رحمه الله ولم تُستر عورتها حتى اليوم.

-3-

هذه الحالة المستدامة والمتجددة من الإستبداد بل الطغيان، تتطلب اليوم وقفة نقدية ذاتية متأنية من قِبل كل تيار وقوة سياسية أهلية عربية، واضعة نفسها أولاً وبقية التيارات والقوى الأهلية تحت المجهر، قبل أن يكون بإمكانها وضع أنظمة الحكم وامتداداتها الخارجية في مرمى القول الذي يقترن بالفعل ويكتسب القدرة على التأثير لما يتمتع به من صدقية تعبر عن إرادة التغيير. " فالله لا يُغيرما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم" . فكل تنظيم يشوب الإستبداد ممارسته وينزلق إلى إقصاء  الآخرين ولا يُمارس الديمقراطية داخله، لن تكون له صدقية ولن يكون قادراً على المساهمة في تفكيك الإستبداد في الحياة السياسية العامة حتى يُفكك الإستبداد داخلة وفيما بينه وبين شركاءه في المعاناة والضرر.

ولذلك لا بد أن تقف اليوم التيارات والقوى العربية الاهلية بإعتبارها في طليعة القوى التي من واجبها تفكيك الإستبداد، وقفةٌ صادقةٌ متأنيةٌ لتحديد الشبكة العنكبوتية للإستبداد من مسوغات متجذرة ومن سلوكيات مزدوجة، إضافةً إلى فهم آليات الضبط السلطوي الذي أتقنته أنظمة الحكم العربية فضلاً عن إعتمادها على التحالفات المشبوهة لتغطية النظام وتوفير الحماية الخارجية له.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن تقف مع النفس، وتلك وقفة أصعب هدفها أن يُدرك كل تيار وقوة سياسية مسؤليته في تكريس الإستبداد وأن تتعلم التيارات والقوى التي تنشد التغير كيف تتعاون من أجل تأسيس نظاماً سياسياً إجتماعياً بديل لنظم الإستبداد الراهنة، القائم منها والمرشح لأن يحل محل البالي العنيد من أنظمة الحكم العربية المعاصرة.

فلولا الشقاق بين الأطراف الأهلية وقصر نظرها في إدراك سياسة فرق تسد، وضيق أُفقها السياسي والوطني، لما كان الشقاق الفكري والثقافي متجذراً ومتعذراً على التسوية التاريخية، ولما بدت دولنا العربية المجزئة ساحة حروب أهلية فكرية ومادية يمزقها التعصب والتطرف، وتؤجج في كل منها الصراعات المدمرة، الطائفية والمذهبية والأثنية والمناطقية وحتى القبلية والعائلية. فكل جماعة تميز نفسها وتشير للآخرين "بإخواننا" تأكيداً لعمق مفهوم الأنا والأخر وتعبيراً عن غياب مفهوم المواطنة وروح المواطنة الجامعة نتيجة تراجع عملية الإندماج الوطني، التي لا تقوم لدولة قائمة ما لم يتم التوافق بين الأفراد والجماعات على قواسم وطنية مشتركة تؤسس عليها عملية الإندماج الوطني وتستدام الوحدة الوطنية.

-4-

من هنا من ظاهرة الشقاق في كل دولة عربية جاء التوصيف المعادي للعرب يقول بأن الدول العربية الراهنة مشروعات حروب أهلية. فالأفراد والجماعات في كل دولة عربية مجرد تجمعاً بشري لم تبلغ بعد مرتبة المجتمع وليس بينها عقد إجتماعي ولا هي قادرة على التوافق على ثوابت وطنية وهويه جامعة مشتركة، ترفع مستوى تلك التجمعات البشرية إلى مستوى مجتمع بالمعنى العلمي للمجتمع. فالأفراد والجماعات والمجتمعات الفرعية في حد ذاتها لا تبلغ مرتبة المجتمع الواحد, إلا عندما يكون ما يربط بين تلك الجماعات هو أكثر وأكبر مما يربط بين أي جماعة منها مع جماعات خارج حدود الدولة، ويتولد شعور بالمصير المشترك وتؤمن بالتالي معظم جماعات المجتمع وأفراده بضرورة توفير متطلبات تأمين مستقبل العيش المشترك.

إن الشقاق الثقافي بين الطوائف والمذاهب والأثنيات في الدول العربية مازال مع الأسف، متجذراً ويبرز على السطح كلما كانت الأوضاع متردية ومتراجعة، والجوامع الوطنية  والقومية واهنة بسبب ضعف الأندماج الوطني والفشل في توفير الأمن والتنمية.     

عندها يبدو سراب النكوص إلى الهويات الثانوية فيه حماية للأفراد والجماعات المختلفة، حيث يتحول التنوع الذي يمكن أن يُغني المجتمع إلى تمايز وإختلاف ومدعاةٌ للشقاق والبحث عن حلفاء من خارج الدولة التي فشلت في تحقيق الإندماج الوطني بسبب التسلط والإستبداد وطغيان الحاكم ومن يواليه, على غيره من الجماعات المحكومة، وممارسة سياسة فرق تسد من أجل بقاء الحاكم الفرد ضرورة تحُول دون الحروب الأهلية، وتضع الأفراد والجماعات أمام خيارات مصيرية أحلاها مر.

وكذلك يعمل الشقاق السياسي الأيدلوجي بين التيار الاسلامي والتيار الوطني وهذه تسميات أكثر قبولاً اصطلحت عليها الفصائل الفلسطينية_ وأطياف كل منهما اليوم بشكل خاص، على تغذية الأحتقان وتصعيد الإرهاب الفكري الأهلي، من تكفير وصفات تحمل معناه من ناحية ومن رجعية وتخوين من ناحية اخرى. الأمر الذي يحول كل حزب في نظر غيره إلى متربص لإقتناص السلطة - بالإنقلاب أو بالإنتخاب – وإقصاء إمكانية وصول الآخرين إليها. ويصبح بذلك نتيجة لإستمرار الشقاق الثقافي والشقاق السياسي، دوام الحاكم الغشوم أفضل من فتنةٌ تدوم.

ولعل التطبيق الدولي لهذا التوصيف المعادي للعرب، يتضح في ما نواجهه اليوم من ترويج لهويات شرق أو سطية على أسس دينية ومذهبية واثنية وعداء للهويات الوطنية وإنكارا للهوية العربية الجامعة للدول الناطقة بالعربية. كما يبرز أثر ذلك التوصيف فيما نشهده على أرض الواقع من تطبيق سياسات وتكريس آليات لتحقيق الفرز وإحداث التفكك من خلال تعريض الدول العربية خاصة والدول الإسلامية عامة إلى مبدأ الفوضى "البناءة" والدعوة إلى إقامة الكانتونات الأثنية والطائفية المُمزقة للدول العربية الراهنة. ولعل مبدأ الفوضى "البناءة" هو توظيف لواقع الحال في الدول العربية الذي كان يقال عنه من باب النكتة "الفوضى عارمة والأمن مستتب" !!.

إن التوصيف المعادي هذا للدول العربية بإعتبارها مشروعات حروب أهلية، يجرى تمويه باطله اليوم بحقيقة الشقاق الثقافي والإيدلوجي. ولذلك فإن ضياع الدول العربية ونكوص مجتمعاتها، خطر داهم إذ استمر الشقاق وفشلت التيارات والقوى التي تنشد التغيير في التوصل إلى ثوابت وطنية تؤسس عليها مشروع نظام سياسي وإجتماعي على قاعدة الديمقراطية، يكون بديلاً للإستبداد وحكم التغلب القسري ومنافساً لمشروعات الحروب الأهلية الهادفة إلى تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ كما يقال.

-5-

ومن هنا فإن إثارة قضية الإستبداد، التي نجح الكتاب في توضيح جوانبها ومدى شمولها وبين شرورها، أمر لازم ولكنه بكل تأكيد غير كاف. فتفكيك الإستبداد بالضرورة يتطلب الإنتقال من القول إلى الفعل . كما يتطلب ترجمة صرخات الأدب والفن العربي من وطئة الإستبداد إلى فكر قابل للتطبيق حتى يمكن للعرب  الإنتقال من التوصيف والتحليل والتشخيص الذي هو من مهمة الباحثين والمفكرين, إلى العمل والتنفيذ الذي هو من مهمة الممارسين والناشطين في العمل السياسي عامة، ومن الأولويات الواجبة على النضال السياسي للتيارات والحركات التي تنشد التغيير على وجه الخصوص.

وجديرٌ بالتأكيد في هذا السياق ان المرحلة الراهنة في كل الدول العربية هي مرحلة ما قبل العمل نصاً وروحاً بدستور ديمقراطي في أي منها. فاغلب الدول العربية ليس لديها دستور ديمقراطي. والدول التي قرب دستورها من الأخذ ببعض مبادئ ومؤسسات وآليات وضمانات الدستور الديمقراطي، يعطل الحاكم الفرد فيها تطبيق تلك الدساتير بقوانين الطوارئ وغيرها من إجراءات غير دستورية. كما يعطلها بمقولات، تدعي لنفسها سيادة الحاكم الفرد على الشعب بالرغم من النص على ان الشعب مصدر السلطات. فالشعب بالنسبة للحاكم مصدر السلطات مع وقف التنفيذ، إلى ان تشاء إرادة الحاكم الفرد أو تفرض عليه ضغوط خارجية لا قبل له عليها.

وفي الكتاب الذي أصدره مشروع دراسات الديمقراطية ونشره مشكوراً مركز دراسات الوحدة العربية عام 2004م، بعنوان "الديمقراطية داخل الأحزاب العربية" والذي هو محصلة اللقاء الثالث عشر للمشروع، اتضح زيف مقولة "الحزب الحاكم" فليس هناك حزب حاكم في أي بلد عربي وإنما هناك "حزب الحاكم" وأداة حكمه، يشكله الحاكم من أجهزة الإدارة العامة والأعلام الرسمي وأجهزة الأمن وكل من أختار موالاة الحاكم على شروطه، من أشكال حزبية قديمة تم مصادرتها  ومن شخصيات ذات قيمة تاريخية بعد تعطيلها وافراغها من محتواها. وحزب الحاكم هذا يتكون من المواليين الشخصيين للحاكم والانتهازيين والموالين المضطرين بحكم مراكزهم في الوظيفة العامة أو مصالحهم في القطاع الخاص. وهوه موجود في كل دولة عربية حتى وان كانت تحرم الأحزاب وتنبذ فكرتها وتحاربها. كما ان بعض الحكام التقليدين الذي يعتبرون أنفسهم فوق السياسة يلجئون إلى تشكيل أحزاب وجمعيات جديدة موالية لهم. كما يغون القائم منها كلما جدت حاجة لديهم تستدعي تجديد البالي من أحزاب وجمعيات الإدارة. أما الحكام الذين يشكلون حزباً كبيرا موالياً لهم ويمنعون بروز أي حزب منافس لـه، فهم واضحون ما علينا إلا إلقاء نظرة على ما يسمى حزباً حاكماً في أي دولة عربية دون استثناء فنجدها في حقيقة الأمر "حزبا للحاكم" يتصرف بقراره كيفما شاء وليست "حزب حاكم" في حقيقة الأمر.

ولعل هذا الاستنتاج يطرح على التيارات والقوى التي تنشد التغيير التحدي الذي يفرضه "حزب الحاكم" الظاهر أو الباطن. وان تشكل من بينها كتلة الشعب او حركة الدستور الديمقراطي التي عليها ان تواجه الحاكم وحزبه بما يؤدي الى التوافق على دستور ديمقراطي، تشارك في وضعه وضمان تنفيذه كافة القوى التي تنشد التغيير الديمقراطي وان يكون عقداً اجتماعياً فيما بين أطرافها كما انه عقداً مع الحاكم ومن يواليه.

وهذا هو الأسلوب الوحيد الذي انتقلت به كثيراً من الدول في النصف الثاني من القرن العشرين من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، وذلك عندما شكلت القوى التي تنشد التغير تحالفاً من أجل وضع دستوراً ديمقراطياً واتفقت على قيام حركة دستورية ديمقراطية فاعلة، مكنتها من الانتقال إلى الديمقراطية. وقد سمي هذا الحلف الديمقراطي في أمريكا اللاتينية Pact  كما أوضحت مناقشات اللقاء الثاني عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في الكتاب الذي أصدره مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان " الانتقال إلى الديمقراطية في البلاد العربية" عام 2003م.

-6-

فهل ترتفع قيادات العمل الأهلي إلى مستوى المسئولية وتنبذ أسباب الشقاق وتنكبُ على البحث الجاد عن قواسم مشتركة بين التيار الإسلامي والتيار الوطني بكل أطيافهما، حتى تستطيع أن تكوّن فيما بينها "كتلة الدستور الديمقراطي" ؟

إن التوصل إلى قواسم مشتركة مهما كانت قليلة سوف تنمو إذا هي نقحت الخطاب وأمّنت إدارة سلمية لأوجة الإختلاف في وجهات النظر والتعارض في المصالح، وركزت في المرحلة الأولى على التوافق بينها وأعلنت ميثاق شرف يقودها إلى التوصل إلى إتفاق حول معالم نظام سياسي يأمن فيه كل تيار وقوة سياسية على نفسه وفرصته في المنافسة السياسية الشريفة قبل الانتقال إلى الديمقراطية وبعدها بشكل خاص.

عندها سوف يمكن للتيارات والقوى السياسية التي تنشد التغييرأن تكون حركة ديمقراطية دستورية، تقود نضال مجتمعاتها ودولها إلى إقرار عقد إجتماعي متجدد، يجهض مخاطر الحروب الأهلية التي قد ينزلق إليها العرب والمسلمين لا قدّر الله، دون رغبة ولا مصلحة ترجى، وتفتح بذلك التعاون المسئول لبناء نظاماً سياسياً يحقق التراكم والأمن والنماء، وفق عقد إجتماعي متجدد يجسده دستور ديمقراطية يوضع موضع التطبيق نصاً وروحاً. 

وفي الختام ربما يكون لقول الشاعر العربي في أوضاعنا الراهنة مكان حين قال:

لا يصلح الناس فوضى لاسراة لهم              ولاسراة لمن جهالهم سادوا

نعم إن وجود تنظيمات فاعلة من أحزاب وحركات ونقابات وجمعيات أمر لازم ولكنه غير كاف، حيث يجب أن يكون على رأس تلك التنظيمات سراة عُقلاء يُقّدرون المسئولية ويرتقون إلى مستواها. فهل نحن فاعلون؟