الديمقراطية طوق نجاة

هناك دواعي وهناك دلالات جعلت مشروع دراسات الديمقراطية في البلاد العربية يقوم بجهود البحث عن مداخل انتقال إلى الديمقراطية في الدول العربية. أما الدواعي فهي ما وصلت إليه الشعوب العربية من ضيق بحالة الاستبداد السافر ونظم حكم الغلبة والتسلط التي تغطي المنطقة العربية دون استثناء. فالدول العربية قد تختلف نسبياً من حيث حرية القول أما من حيث الممارسة الديمقراطية فإنها مع الأسف غائبة على أرض الواقع في جميع الدول. الأمر الذي أدى إلى تخلف التنمية وتأكل الإرادة الوطنية وإنكشاف الأمن القومي، إلى جانب تمزق النسيج الوطني فضلا عن الفساد والمحسوبية وهدر المال العام وتبديد الأملاك والثروات العامة.

وأما دلالات البحث عن مداخل انتقال إلى الديمقراطية في الدول والمجتمعات العربية على حد سوء، فإنها تتمثل في تزايد الوعي العربي  بأن الديمقراطية اليوم هي طوق نجاة من المأزق الكثيرة التي وضع العرب - حكومات وجماعات أهلية- أنفسهم فيها، وأصبحوا بالتالي غير قادرين على الفعل وعاجزين عن إدارة أوجه الصراعات الداخلية المدمرة  سلمياً، على مستوى العلاقة فيما بين القوى التي تنشد التغيير ومستوى العلاقات بين المعارضة والحكومات.

فالديمقراطية من ناحية أثبتت اليوم قدرتها النسبية على إدارة اوجه الاختلاف وتعارض المصالح في إطار الجماعة الواحدة على مستوى الدولة وفي المنظمات غير الحكومية، وسمحت بالاستقرار السياسي ونمو الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. كما رشدت من خلال الحوار الوطني المتأني والشفافية النسبية فضلا عن التأكيد على اتخاذ القرارات العامة من قبل الملزمين بها، عملية اتخاذ القرارات العامة وحل مشكلات التطور أول بأول ومواجهة المتغيرات المتسارعة، هذا بعد أن نجحت في تحقيق مصالحات تاريخية ومهدت لتحقيق إندماج وطني على قاعدة الديمقراطية في البلاد التي اتخذت من الديمقراطية نظام حكم ومنهجا رسميا وأهليا لإدارة الشئون العامة. ومن ناحية ثانية، أصبحت نظم الحكم الديمقراطية اليوم، كفيلة بإكتساب احترام البشر قبل مهابة الدول وردعت أعداءها من التدخل القصري في شئونها، بذريعة حق يراد به باطل. ولعل تجربة نيكاراجوا وعدداً من دول أمريكا اللاتينية حديثا، وماليزيا بعد الحرب العالمية الثانية، جديرة بالدراسة في قدرة الديمقراطية بان تكون طوق نجاه.

وإدراكا لهذه الدواعي والدلالات طرح مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية ضمن سلسلة الحوارات التي يجريها ( انظر الملحق(1) )، قضية أهمية وإمكانية الانتقال إلى الديمقراطية في البلاد العربية للمناقشة في لقاءه السنوي الثاني عشر الذي عقد في كلية سانت كاثرنس بجامعة اكسفورد في الحادي والثلاثين من شهر أغسطس / آب 2002م.

وفي الكلمة التي تشرفت بإلقائها في افتتاح اللقاء أوضحت أسباب اختيار الموضوع قائلاً. "من المفارقات التي تسترعي الانتباه أن يجتمع الباحثون والمفكرون العرب لمناقشة مداخل الانتقال إلى الديمقراطية في الدول العربية في الوقت الذي يستمر فيه العدوان الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية وتقرع طبول الحرب على العراق، ويتصاعد التهديد بالعدوان على الدول العربية عامة وتلوح في الأفق مخاطر سايكس – بيكو جديدة لمزيد من التفتيت للدول والتفكيك للمجتمعات العربية على أسس طائفية ودينية وإثنية هذه المرة. ولكن هذا اللقاء بالرغم من ذلك يأتي في وقته المناسب، فكل وقت للمطالبة بضرورة الانتقال إلى الديمقراطية هو وقت مناسب، إلى أن يتم تفكيك الاستبداد في الحياة السياسية العربية. بل أن الديمقراطية اليوم هي طوق النجاة الذي سوف تتأكد الوحدة الوطنية من خلال ممارستها ويمتلك الناس حق التأثير على عملية اتخاذ القرار الوطني ويقفون وراءه من اجل تحقيق الأمن وإنجاز التنمية. فالدول العربية الحديثة التي قادها الاستبداد بالقرار إلى ما هي فيه اليوم من عجز وتخلف وهوان، لن تخرج من وضعها الحالي ولن يتوفر للعرب احترام العالم إلا عندما تصبح للشعوب مشاركة حقيقة على ارض الواقع في اتخاذ القرارات المؤثرة على حاضرها ومستقبلها، وتكون بالتالي مستعدة للدفاع عنها بوعي وإدراك ومسئولية. ومن هنا فإن بحثنا عن مداخل الانتقال إلى الديمقراطية وتحرينا للسبل المؤدية إلى ذلك هو بحث وتحر للخروج من الاستبداد الذي يشل قدرة الإنسان العربي ويمتهن كرامته، والذي يطبع الحياة السياسية العربية عامة بدرجات مختلفة ويضعف بالتالي مناعة المجتمعات العربية لمواجهة العدوان ومخططات التفتيت والتفكيك واستمرار التخلف والعجز، الذي يقع من الاستراتيجية الصهيونية ومخططات الهيمنة موضع المركز. ولذلك يأتي لقاءنا هذا في سياق سعي "مشروع دراسات الديمقراطية" إلى تعزيز المساعي الديمقراطية في البلاد العربية وتفكيك الاستبداد لما فيه مصلحة ونماء البلاد العربية، ورفعة كرامة شعوبها وحكوماتها".

***********

وإذا كانت الديمقراطية طوق نجاة فما هو حظ تجاربنا في الانتقال إلى الديمقراطية وأشباهها والانفتاح السياسي المؤدي إلى تسهيل الانتقال إليها؟ وما سبل ومداخل الانتقال باعتبار الانتقال إلى الديمقراطية حالة يسبقها انفتاح سياسي وتوافق وطني يتجسد في تعاقد مجتمعي متجدد يأخذ شكل دستور ديمقراطي ، ويلي ذلك الانتقال من حكم الفرد أو القلة إلى حكم الكثرة بداية عملية تحول ديمقراطي شاقة ومستمرة ترتقي بالممارسة الديمقراطية تدريجياً بعد أن تم وضع أساس سليم لها. 

هذه التساؤلات شكلت مضمون هذا الكتاب، الذي كان ثمرة حوار عن قرب بين المشاركين في اللقاء ( انظر قائمة المشاركين) وحوار عن بعد بفضل مشاركة عدد من المعنيين بالتحول الديمقراطي ممن تعذر حضورهم اللقاء، ببحوث وتعقيبات ومداخلات. واليها أحيل القارئ الذي سوف يجد في الأوراق والتعقيبات والمداخلات التي تضمنها الكتاب محاولات للإجابة ومعاناة في البحث عن كيفية الانتقال. ومحاولات الإجابة هذه تضاف إلى محاولات عديدة جادة على الساحة العربية وفي العالم وتنضم إلى معانات البحث عن مداخل مشتركة وسبل مجربة في حالات الانتقال إلى الديمقراطية في الدول الدكتاتورية السابقة في أوروبا الغربية وفي أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وفي آسيا وأفريقيا.

وعلى القوى التي تنشد التغيير كما على النخب الحاكمة المتنورة حيث وجدت في الوطن العربي أن تواصل البحث عن كيفية الانتقال إلى الديمقراطية، وربما يحتاج الأمر إلى وقفة عند مضمون الديمقراطية حتى لا تصبح الديمقراطية شعار أجوف يستغله كل من أراد أن يواصل حكم الغلبة والاستبداد تحت مسميات أخرى.

وفي هذا الصدد يبرز مضمون الديمقراطية إلى جانب سبل الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية من بين الأولويات التي يجب التوافق حولها، وتجسيدها في مشروع دستور ديمقراطي. وابدأ القول بأن الديمقراطية نظام حكم محدد المعالم له مبادئ ومؤسسات وآليات لا تقوم لنظام الحكم الديمقراطي قائمة إذا لم يستقر وجود الحد الأدنى منها في الممارسة الديمقراطية. وحتى يتاح ذلك فأن نظام الحكم الديمقراطي لابد له أن يؤسس على تعاقد مجتمعي متجدد يعبر أيضا عن ثوابت المجتمعات والمصالح والخيارات المتغيرة للأفراد والجماعات حتى يستمر نظام الحكم الديمقراطي قائما ومعبراً عن قبول حقيقي منضبط ينتقل فيه الحكم من تيار إلى آخر ويتم تداول السلطة وفق ضمانات تحول دون حدوث انقلابات على الديمقراطية بعد الوصول إلى الحكم بفضلها، الأمر الذي يجعل من الديمقراطية مجرد وسيلة للوصول إلى الحكم أو طريقة للاحتفاظ به دون وجه حق وبصرف النظر عن ضوابط الديمقراطية.

وفي ختام هذا التقديم المقتضب، لا بد  للفضل أن ينسب إلى أهلة وأهل الفضل هم أصدقاء مشروع دراسات الديمقراطية جميعا الذين وجدوا في حوارات هذا المشروع سبيلاً للبحث عن قواسم مشتركة تتوافق عليها عناصر من بين التيارات والقوى التي تنشد التغيير، ومن بين النخب الحاكمة التي اهتدت إلى أهمية الديمقراطية وإمكانية الانتقال إليها وأدركت أفضليه ذلك على المستوى الخاص والعام.

والشكر موصول بشكل خاص إلى المساهمين في هذا الكتاب فالشكر والتقدير واجب لمعدي الأوراق والمعقبين عليها والمتدخلين عن قرب في اللقاء، وعن بعد لمن لم تسمح ظروفه بحضور اللقاء. وأٌخص بالشكر باحث أكاديمي مهتم ومعنى بالتطور السياسي في البلاد العربية ساهم منذ إنشاء مشروع دراسات الديمقراطية منذ ثلاثة عشر عام، بالكثير من الأوراق والتعقيبات والمداخلات وغيرها من الجهود الفكرية والبحثية هو الصديق الدكتور يوسف الشويري الذي اشكر من خلاله جميع أصدقاء المشروع والمشاركين في جهوده.

ولا يفوتني أن أتقدم بالشكر إلى زميلي وصديقي وشريكي في إدارة المشروع وتنسيق نشاطاته الدكتور رغيد كاظم الصلح على ما بذله من تخطيط لموضوع الانتقال إلى الديمقراطية وما قام به من تنسيق لجهود البحث والكتابة  والشكر أيضا موصولاً إلى الأستاذ روبرت مابرو ومركز اكسفورد لدراسات الطاقة والأستاذ نديم شحاته مدير مركز الدراسات اللبنانية اللذان كانا دائما عونا وسنداً للمشروع،وكذلك السيدة كارولاين كاربنتر من كلية سانت كاثرنس بجامعة اكسفورد على ما بذلوه من جهد لعقد اللقاء وتوفير التسهيلات اللازمة لذلك.

وأخيرا وليس آخر فالشكر والتقدير والعرفان واجب لمركز دراسات الوحدة العربية ومجلة المستقبل العربي لقيامهما بنشر تقرير وملف حول الانتقال إلى الديمقراطية في البلاد العربية تلاه نشر الكتاب كاملاً بعد القيام بتحريره لغوياً وفنيا. فللمركز والعاملين فيه ولمديره العام ورئيس مجلس أمناءه الدكتور خير الدين حسيب جزيل الشكر على رعايتهم لبرنامج نشر مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية.