لا تقوم الديمقراطية في ظل حكومة دينية - مناقشة لرأي الأستاذ الغنوشي في "آراء ومناقشات"

اتفق مع الصديق  الأستاذ راشد الغنوشي في انه لا يجوز أن يستمر " الجدل العقيم طويلا حول الديمقراطية وربطها بالعلمانية تعسفا؟(1). وأضيف كذلك الخطاء في ربط الديمقراطية بالليبرالية التي هي عقيدة تنافس غيرها من العقائد. فالديمقراطية المعاصرة اليوم والتي انتشرت عبر القارات والحضارات ليست مجرد آلية تابعة لأية عقيدة, وإنما  هي نظام حكم ليس فيه سيادة لفرد أو قلة على الشعب, ومنهج عقلاني  أكثر عدالة لتحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة من قبل المكلفين بها.

ولعل ما نراه في الغرب الليبرالي من حريات فردية مطلقة وقيم اجتماعية متطرفة تتناقض مع القيم الدينية عامة, هي نتيجة الممارسة الديمقراطية في مجتمعات تدين بالعقيدة الليبرالية وليست ضرورة من ضرورات الديمقراطية. فالديمقراطية تتأثر عند تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة بتفضيل المجتمع الذي تمارس الديمقراطية فيه, طالما كانت تلك التفضيلات لا تكرس سلطة فرد أو قلة على الجماعة ولا تخل بمبدأ المواطنة الكاملة المتساوية ومبدأ الشعب مصدر السلطات يمارسها وفق شرعية دستور ديمقراطي, يؤسس على المبادئ الديمقراطية العامة والمشتركة بين كافة نظم الحكم الديمقراطي, ويرسى مؤسسات وآليات وضوابط ويوفر ضمانات أهلية للممارسة الديمقراطية (2).

واتفاقي هذا مع الأستاذ راشد حول خطاء و خطورة ربط الديمقراطية بالعلمانية على جهود ومستقبل الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية في الدول العربية, يجعلني استفسر عن أبعاد ما ذكره الأستاذ راشد حول " تمييز الدين من الدولة وأهميته". وعلى الأخص الفقرتين التاليتين:

  1. "ليس كل ما ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, أعمالا وأقوالا وإقرارات, هو سنة تشريعية أي ملزمة للمسلمين, فالملزم منها ما جاء بوصفه التبليغي. والعلماء هم المؤهلون لهذا التمييز."
  2. "هذا التمييز سمح عبر تاريخ الإسلام بتبلور مؤسستين, واحدة سياسية هي الدولة, وأخرى دينية يقوم عليها العلماء, وتهتم بأمر تفسير النصوص والإفتاء والتعليم والوقف وما إلى ذلك." (3)

فالفقرة ألأولى يبدو من قراءتي لها إنها تحصر حق التمييز في علماء الدين فهم المؤهلون للتمييز بين " ما هو سنة تشريعية أي ملزمة" وبين بقية ما ورد في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال وأقوال وإقرارات. والفقرة الثانية قد يفهم منها الدعوة إلى قيام مؤسستين(سلطتين) متوازيتين في الكيان السياسي الواحد, " واحدة سياسية هي الدولة, وأخرى دينية يقوم عليها العلماء, وتهتم بأمر تفسير النصوص والإفتاء والتعليم والوقف وما إلى ذلك."

وفي تقديري إذا كان الأستاذ راشد يقصد قيام مؤسسة دينية في الدولة الديمقراطية إلى جانب الدولة, تكون مصدرا للسلطة في ما يتعلق بأمر تفسير النصوص والإفتاء والتعليم والوقف وما إلى ذلك, تاركة ما لا تراه من اختصاصها للمؤسسة السياسية التي هي الدولة باعتبارها في نظام الحكم الديمقراطي  مؤسسة منبثقة عن ألإرادة الشعبية وتقف على مسافة واحدة من كل مواطنيها , فان هذا الوضع لا يقيم نظام حكم ديمقراطي وإنما هو اقرب إلى قيام حكومة دينية وتكريس وصاية علماء الدين "المؤسسة الدينية" على الشعب. وهذا يتعارض مع المبدأ الجوهري الذي يميز نظم الحكم الديمقراطية- على اختلافها- ألا وهو مبدأ كون  الشعب مصدر السلطات ونفي  وصاية فرد أو قلة على الشعب , وإنما يؤسس نظام الحكم الديمقراطي على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والشعب مصدر السلطات وفق شرعية دستور ديمقراطي باعتباره عقدا مجتمعيا متجددا.

وإذ أقدر للأستاذ راشد مشاركته الفعالة في الحوارات الهادفة إلى تنمية القواسم المشتركة التي تسمح بقيام نظم حكم ديمقراطية في الدول العربية, والتي مثلت مشاركتنا المنتظمة في حوارات مشروع دراسات الديمقراطية عبر عقدين من الزمن إحدى قنواتها, فأنني حريص على مناقشته بهدف مقاربة إشكاليات الديمقراطية مع الإسلام والتي ساهم هو شخصيا إلى جانب آخرين اخص منهم المستشار طارق البشري, في مقاربتها بشكل يضع حدا لتسويغ  الاستبداد الذي يعم نظم الحكم العربية القائمة على وصاية فرد أو قلة على الشعب.

وفي تقديري أن المقاربة التي تحقق حماية الممارسة الديمقراطية من التعارض مع جوهر الدين الإسلامي وما هو من الدين بالضرورة, وفي نفس الوقت لا تشوبها شائبة قيام حكومة دينية أو وصاية علماء الدين على الشعب, هو أن ينص الدستور الديمقراطي في الدولة ذات الهوية العربية- الإسلامية  على كون "مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع", وان تكون المحكمة الدستورية وليس علماء الدين هي الجهة الوحيدة المختصة في النظر في دستورية القوانين وما إذا كان القانون  يتعارض مع مبادئ الشريعة ألإسلامية السمحة أم لا يتعارض. وهذا لا ينفي حق علماء الدين من إبداء رأيهم باعتبارهم أصحاب اختصاص ومكانة معنوية مثل حق كافة أهل الاختصاص في إبداء رأيهم حول القوانين والخيارات والقرارات العامة ذات العلاقة بتخصصهم.

أن التوافق على كون" مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" واعتبارها قيدا دستوريا على المشرع (مجلس النواب)  يعود أمر الفصل فيه لمحكمة دستورية, في تقديري مقاربة لا تخل بمبدأ الشعب مصدر السلطات وفي نفس الوقت تحمى الممارسة الديمقراطية من الشطط والتعارض مع ما هوه من الدين بالضرورة... هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى... فان إحالة أوجه الاختلاف في الرأي إلى محكمة دستورية يزيل شبهة وصاية علماء الدين ويحول دون إمكانية قيام حكومة دينية.

وفي الختام ومن أجل تعزيز  حوار جاد ومسئول وهادى بين التيار الديني الإسلامي بكافة أطيافه وبين التيار الوطني الذي يقبل برابطة المواطنة باعتبارها مصدر الحقوق ومناط الواجبات ولا يقبل بسلطة أو وسيادة فرد أو قلة على الشعب, أرى أن وصف بعض أطياف  التيار الوطني  لغيرها من أطياف هذا التيار بالعلمانية, وكذلك وعلى وجه الخصوص  وصف ألمنتمين إلى  التيار الإسلامي غيرهم من أطياف التيار الوطني بالعلمانية أمر يحسن إعادة النظر فيه والتوقف عنه. وذلك لما يحمله مصطلح العلمانية من التباس و حمولة ودلالات تصل عند الجماهير عامة  إلى مستوى الكفر. وبالتالي فأن إطلاق صفة العلمانية على فرد أو جماعة لا تطلقها هي على نفسها  يؤدي مع ألأسف إلى مزيد من الشقاق, كما تحول دون الوفاق المطلوب من أجل بناء كتلة تاريخية على قاعدة الديمقراطية في الدول العربية تكون قادرة على تقديم بديل مقنع وفعال  في كل دولة لنظام حكم الفرد أو القلة.

----------------------------------------------------------

الملاحظات

  1. راشد الغنوشي, الإسلام والعلمانية, المستقبل العربي العدد 359, يناير 2009 ص 182
  2. علي خليفة الكواري, نحو مفهوم جامع للديمقراطية في البلدان العربية, المستقبل العربي العدد 338 نيسان/ابريل 2007 ص44-59
  3. راشد الغنوشي , المصدر السابق ص181