* مراجعة المهندس هاني الخراز " في صحبة شبيه العوسج "
هي حتماً ليست "ذكريات رجل عادي" كما شاء الدكتور علي خليفة الكواري أن يقدم لها تواضعاً في أول الكتاب، فالدكتور علي صاحب بصمة واضحة في المشهد الوطني القطري وصاحب مبادرات ومواقف نقلت تأثيره خارج الحدود القطرية على امتداد رقعة الوطن العربي. وهي أيضاً ليست ذكريات عادية ولا مجرد سيرة ذاتية بل توثيق لتاريخ لم يدون وأريد له أن يمحى من الذاكرة الوطنية القطرية كوسيلة لإحداث قطيعة بين الأجيال تقطع الطريق أمام مراكمة الشعب لتجاربه وتعرقل مسيرته نحو الحصول على حقوقه الأصيلة في وطنه. وهذه المذكرات أيضاً سجلٌّ يوثق جهود وإسهامات شخصيات وطنية عانت من التجاهل الإعلامي وغيبت عن المشهد الوطني قسراً.
تأخذنا مذكرات الدكتور من قرى قطر في عصر ما قبل النفط إلى "فرجان" الدوحة ثم إلى سينمات القاهرة ومقاهيها ومسارحها فشوارع دمشق وأزقتها التاريخية ولبنان ومكتباتها والمملكة المتحدة وجامعاتها العريقة لنراها بعيون خليجية رأتها لأول مرة وسجلت انطباعتها المبكرة حولها وسجلت ذكرياتها الحية فيها.
يبدأ الدكتور علي بسرد ذكريات طفولته في قرية (الغارية) الواقعة شمال دولة قطر فيصف حالها قبل عصر النفط وصلاتها وعلاقاتها بما جاورها من قرى ليشرح نشأة المجتمع القطري بعيداً عن السلطة المركزية، حيث يذهب الدكتور الى أن قطر قبل عصر النفط "كانت أشبه بفيدرالية من تجمعات قبلية على شكل مجموعات قرى منفصلة جغرافياً وقبلياً" ويعتقد أن مفهوم الشعب القطري لم يتشكل إلا بعد اكتشاف النفط وتجمع أهل قطر للعمل في الصناعة النفطية عند رب عمل واحد فكانت مدينة (دخان) الصاهرة الحقيقية لمكونات المجتمع والمشكّلة للشعب القطري بمفهومه الحالي.
يمضي الدكتور في سرد قصته بعد النزوح إلى مدينة الريان حيث يبدي مشاعره الحانقة تجاه التمايز الاجتماعي والاقتصادي الذين لاحظهما في مجتمع الريان – على عكس ما نشأ عليه في الغارية - نتيجة الحظوة التي شملت أبناء الأسرة الحاكمة دون غيرهم حيث خصصت لهم رواتب مقتطعة من عوائد النفط وامتيازات وخدمات مجانية في الوقت الذي عانى فيه الغالبية من الشعب من شظف العيش وضيق الحال. كان هذا مدخلاً مهماً لمناقشة سياسات تخصيص عوائد النفط في قطر حيث استفاض الدكتور في شرح خلفياتها وأثرها الاجتماعي والاقتصادي آنذاك.
في دخان حاضنة الصناعة النفطية في بداياتها في قطر يصف الدكتور حياة العمال القطريين والصعوبات التي واجهوها ويوثق أنشطتهم الاجتماعية والثقافية وبيئة عملهم في صورة قريبة جدا من تلك التي رسمها عبدالرحمن منيف في خماسية مدن الملح. ينطلق الدكتور من هناك ليوثق نشاط الحركة العمالية في قطر وإضراباتها في سعيها لتحسين وضعها الوظيفي وتحصيل حقوقها المشروعة ويبين تأثرها وتفاعلها مع زخم المد القومي في حينه.
والملاحظ فيما وثقه الدكتور علي تفاعل المجتمع القطري في الخمسينات والستينات من القرن الماضي مع القضايا القومية المصيرية وارتباطه وتأثره بعمقه العربي. نقل الدكتور في مذكراته مثلا خروج القطريين في مظاهرات تلقائية ضد العدوان الثلاثي على مصر في ٥٦ وتأييداً للوحدة بين مصر وسوريا في ٥٨, كما وصف الجهود الشعبية لجمع التبرعات دعماً للثورة الجزائرية تارة، ودعما للمجهود الحربي في أعقاب هزيمة ٦٧ تارة أخرى. ولم تقتصر هذه التحركات على الحركة العمالية ورجل الشارع بل امتدت الى داخل المدارس وبين صفوف الطلبة.
تطرق الدكتور علي الكواري في مذكراته أيضا من خلال سرده لذكريات سنينه الأولى في المدرسة إلى السياسات التعليمية المبكرة في قطر وكفاءة المناهج والعناصر المستقدمة من الدول العربية لتلبية احتياجاتها. كما حاول رسم صورة للتأثيرات الأيديولوجية في أروقة إدارة المعارف المشرفة على العملية التعليمية والتجاذبات القائمة بينها.
يفرد الدكتور علي بعد ذلك فصلا كاملا يتحدث فيه عن تأسيس أول نادٍ ثقافي في قطر (نادي الطليعة) ويوثق أنشطته الثقافية والفنية وتفاعل المجتمع القطري معها قبل قيام السلطات بمداهمة النادي بالعسكر والبنادق واعتقال منتسبيه. لا يستغرب الدكتور في مذكراته موقف السلطة من النادي لأنه يعتقد أنه يعبر عن "سياسة ثابتة لدى السلطة" تتمثل في "منع قيام أي مؤسسة أو جماعة أو جمعية غير حكومية من المواطنين ما لم تكن من صنع السلطة ورهن إرادتها وتحت جناح أصحاب النفوذ فيها". الملفت أن مؤسسي النادي كانت أعمارهم حينها بين السادسة عشرة والعشرين سنة. والملفت أكثر حجم الملفات والقضايا التي تناولها أعضاء النادي في هذه السن المبكرة. هؤلاء المؤسسون لنادي الطليعة تحولوا مع المتفاعلين معهم عبر الوقت إلى "طيف ثقافي وطني تجمعه القضايا والاهتمامات. طيف غير منظم ولكنه متواصل وحاضر في حياة قطر الثقافية" حسب تعبير الدكتور في مذكراته.
أفردت المذكرات مساحة واسعة للحديث عن حركة ١٩٦٣ التي تفجرت بعد تعرض أحد أبناء الأسرة الحاكمة لمظاهرة مؤيدة للوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق وإطلاق النار عشوائياً عليها. هذه الحادثة لم تكن سوى شرارة لتفجر الأوضاع المشحونة في المجتمع القطري نتيجة لتصاعد التذمر الشعبي من ضيق الظروف المعيشية والامتيازات التي تختص بها الأسرة الحاكمة وتقلص فرص التوظيف للقطريين وتصاعد مخاطر التجنيس العشوائي. وثق الدكتور المطالب الشعبية التي وردت في العريضة الصادرة باسم لجنة الاتحاد الوطني وأسماء الموقعين عليها وموقف السلطات منها وعقوباتها ضد الناشطين السياسيين المحركين لها. كما تناول تداعياتها السياسية والاجتماعية ابتداءاً من سجن ناصر المسند وحمد العطية مرورا بوفاة العطية في السجن واستمرار حبس المسند دون محاكمة وما أدى إليه من موقف قبيلة المهاندة وهجرتهم إلى الكويت كموقف سياسي رافض لتبعات الموقف الحكومي.
تبرز المذكرات في هذه المرحلة الشخصية الفاعلة الحركية والمؤثرة في محيطها الوطني للدكتور على ورفاقه. فعلى الرغم من وجودهم في القاهرة إبان أحداث حركة ١٩٦٣ وعدم مشاركتهم فيها إلا أنهم تفاعلوا معها فأصدروا بياناً تضامنياً مع الحركة وطالبوا بالإفراج عن المعتقلين السياسيين. فكان لهم نصيباً من العقوبات بقطع بعثاتهم الدراسية ومنعهم من الدخول للقاهرة لاستكمال الدراسة على نفقاتهم الشخصية. يظهر الدكتور في هذه المرحلة كماكينة هادرة لا تتوقف عن العمل وكرجل لا يعرف اليأس ولا يفرط في كرامته. عمل في بعثة أمريكية للتنقيب عن النفط وساهم في تعليم عمالها القطريين القراءة والكتابة ثم انتقل لاستكمال دراسته في سوريا على نفقته الخاصة. وبعد العودة ورغم كونه واحداً من أوائل الخريجين الجامعيين في قطرة، وجد أبواب التوظيف موصدة في وجهه فما كان له إلا السير في "اتجاه إجباري" بفتح برادات الأمل والتي حكى من خلالها الدكتور تجربة إنسانية ثرية بمعاني الكفاح والمثابرة والتكافل الاجتماعي.
يختم الدكتور علي مذكراته بقصة عودته إلى مساره الطبيعي بين الكتب محضراً لشهادة الدكتوراة موجهاً جهوده واهتماماته للشأن العام والهموم الوطنية كما كانت رغبته دائماً.
ضمّن الدكتور علي مذكراته أمنيات ثلاث ورسائل مهمة للأجيال الشابة في قطر ومحيطها. أولها " إحياء روح نادي الطليعة والمحافظة على تراثه والعمل على عودته ومواصلة نشاطاته بشكل مادي أو افتراضي على شبكة المعلومات". وثانيها بث الروح في مؤتمر النفط العربي وآخرها الاستفاضة في دراسة موقف سلطة الحماية البريطانية من حركة ١٩٦٣ الوطنية.
في مذكرات الدكتور علي خليفة الكواري غابت الأنا وبرزت صورة المواطن القطري الكادح، الحريص على كرامته، المرتبط بمجتمعه وعمقه العربي، المطالب بحقه بمقدار ما تسنح له الظروف، تماماً كشجرة العوسج التي اختارها الدكتور عنواناً لمذكراته. لم يغرق الدكتور في ذكر تفاصيل حياته دون التنويه بالمواقف النبيلة التي حاطته من المقربين وحتى البعيدين عنه في صور تعكس طيبة وتعاضد المجتمع القطري.
هاني الخراز 3-8-2015