نجمة تتلألأ و تضيء - مراجعة المهندس هاني الخراز
نجمة تتلألأ وتضيء
(قراءة في الجزء الثاني من مذكرات الدكتور علي خليفة الكواري)
العوسج 2
سيرة وذكريات
المهندس: هاني الخراز
ليس غريباً أن تبقى كتب السير الذاتية والمذكرات الشخصية في صدارة الكتب المقروءة إلى اليوم، وليس غريباً أيضاً أن يعود الكثير من القراء لبعض ما كتب منها قبل قرن أو قرنين كاعترافات روسو وتولستوي وغيرهم. ففضلاً عن تلخيصها للتجارب الإنسانية في حياة كتابها، تقدم هذه الكتب في أحايين كثيرة شهادات مهمة على العصر الذي عايشوه وتوثيقاً لأبرز محطاته وهمومه واهتمامات المعاصرين له. ومن يقرأ مذكرات الدكتور علي خليفة الكواري (العوسج) بجزئيها لا يستطيع تجاوز التجربة الإنسانية الكبيرة في سيرته التي تخطت حدود بلده قطر، ووثقت لجملة من القضايا التي لا تزال تشغل عالمنا العربي إلى اليوم.
في الجزء الثاني من هذه المذكرات تتكثف صورة المواطن الذي ينشد الإصلاح في كل محطة من حياته: في الوظيفة العامة، في البحث الأكاديمي، في النشاط الأهلي وفي تفاعله مع قضايا وطنه العربي. فبعد سنوات الشباب التي تناولها في الجزء الأول ونمو بذرة الوعي التي قادته بمعيةٍ من زملائه لتأسيس (نادي الطليعة الثقافي) وتفاعله مع القضايا الوطنية والقومية، وبعد وقوعه تحت طائلة الإقصاء نتيجة تعاطفه مع مطالب الحراك السياسي عام 1963 والتي استثمرها باستكمال تعليمه وحصوله على شهادة الدكتوراة، يعود في بداية هذا الجزء من المذكرات ليخوض تجربة الإصلاح من الداخل، عبر الوظيفة العامة. جاء رفع الإقصاء عنه بمجيء ما اصطلح عليه بالحركة التصحيحية بعيد استقلال دولة قطر وتولي الشيخ خليفة بن حمد زمام السلطة، في مرحلة بدت مشجعة وباعثة للأمل بعد الوعود بتحقيق مشاركة شعبية سياسية أكبر عبر تنظيم انتخابات مجلس الشورى ، وبعد سعي السلطة إلى إنهاء سياسة الإقصاء وزيادة اعتمادها على الكوادر القطرية في المواقع القيادية لا سيما في قطاع النفط. رغم أن ذلك الأمل لم يدم طويلاً فقد شهدت تلك المرحلة لاحقاً استمراراً في هدر الموارد الاقتصادية وزيادة في العطايا والهبات وتضخماً في الجهاز البيروقراطي للدولة، وفي المحصلة استمراراً في أوجه الخلل المزمنة كما تشير شهادة الدكتور علي الكواري في الكتاب.
جاءت مشاركة الدكتور في العمل العام عبر موقع قيادي مهم في المؤسسة العامة القطرية للبترول حديثة الولادة آنذاك وفي مرحلة فارقة إثر استحواذ المؤسسة على الأصول المملوكة من قبل الشركات الأجنبية في الحقول النفطية القطرية، وفي الوقت الذي انطلقت فيه الدراسات المتعلقة بسبل استثمار المخزون الهائل من الغاز الطبيعي في قطر. لعب الدكتور علي من خلال هذه الوظيفة دوراً مهماً في صناعة النفط في قطر سعى من خلاله إلى ضمان قيام إدارة وطنية في القطاع، فقاد عملية بناء القدرات الذاتية في المؤسسة من خلال تحديث جهازها الإداري وتأهيل العناصر الوطنية إلى جانب جهده الكبير في الحفاظ على المصالح القطرية في مواجهة الشركات الأجنبية. هذا إلى جانب دوره المؤثر في قيادة الدراسات المتعلقة باستثمار احتياطات الغاز والتي ساهمت في تأجيل مشروع تسييل الغاز إلى التسعينات من القرن المنصرم اعتماداً على دراسات معمقة أشارت إلى عدم جدوى التسييل اقتصادياً لدولة قطر في تلك المرحلة.
أشار الدكتور علي إلى اصطدام جهوده بالكثير من العقبات، منها ضعف القرار السياسي أمام الضغوط الخارجية وغياب الرؤية الاستراتيجية الفعالة وانشغال كبار موظفي القطاع بالتنافس على السلطة والنفوذ. وعندما أحس بوصول تجربته في الوظيفة العامة إلى "حدود ما يمكن تحقيقه"، رفض أن يبقى أسيراً لها فكان خروجه من قطاع النفط "بحكم قوة الطرد أكثر من قوة الجذب والتخطيط". وعاد إلى ميدانه الرئيس، باحثاً نذر جهوده البحثية للإصلاح. قضى سنتين في جامعة هارفرد متفرغاً للبحث حول كفاءة أداء المشروعات العامة ودورها التنموي في دول الخليج العربي حاملاً معه تجربته الثرية في القطاع النفطي في قطر. وقادته دراسته الميدانية تلك لغزل شبكة قوية من العلاقات مع النخب الخليجية، فتحت آفاق تعاون "شعبي" وأدت إلى إنشاء (منتدى التنمية) والذي كان سابقاً بشكل لافت على التعاون الذي قام بعد مدة بين حكومات الدول الخليجية الست، في دلالة واضحة على أسبقية الوعي عند الشعوب الخليجية بالحاجة للوحدة والتكامل.
كانت مرحلة التفرغ البحثي تلك هي المرحلة التي ولدت فيها طموحات الدكتور علي الكواري بإقامة مؤسسة تعليمية أهلية غير ربحية ـ يقول عنها الدكتور بأنها "حلم حياته"ـ تختص في البحوث والدراسات العليا و"تنهض بالبحث العلمي وإعداد الباحثين وتنمية معرفة عربية بالذات وبالآخر". هذه الطموحات التي حالت دون تحقيقها إلى اليوم عقبات وضعتها حكومات عربية عدة، خشية أن تؤدي استقلالية هذه المؤسسة التعليمية لتشكل رأي عام مؤثر خارج نطاق سلطة الحاكم المطلق، وتنافسه "في احتكاره للرأي والقرار وتحديده منفرداً للقرارات والخيارات العامة".
بعد سنوات البحث تلك، آثر الدكتور علي الالتحاق بجامعة قطر للتدريس على العودة لمزاولة العمل في الوظائف العامة. وكانت تلك أيضاً بوابة أخرى للإصلاح، عبر تعزيز الجهود البحثية في الجامعة وتوجيهها لرفد النقاش العام حول القضايا الملحة في المنطقة. فقام بتأسيس (مشروع دراسات التنمية في أقطار الخليج العربي) المتخصص بالبحث في قضايا التنمية وعقد حلقات النقاش والندوات حولها. كان المشروع نقطةً فارقةً في تاريخ الجامعة الوطنية في قطر من حيث الدور التوعوي الذي لعبه ومخرجاته البحثية. حيث استقطب جمهوراً كثيفاً من المثقفين من داخل الجامعة وخارجها في المحاضرات وحلقات النقاش المميزة التي أقامها خلال عمره القصير والتي تناولت قضايا رئيسية مثلت رؤية استراتيجية للإصلاح في المنطقة. وكما لم يدم عمر (نادي الطليعة الثقافي) طويلاً، "لم تتقبل البيئة السياسية الجافة في قطر" هذا المشروع الأكاديمي فأقصت الدكتور علي عن إدارته ووضعت بالتالي نهايةً مؤسفةً لعلاقته بالجامعة الوطنية.
كانت تلك بداية العشرية الإقصائية الثانية، ولكنها - كما سابقتها - لم تكن فترة انكفاء وتراجع، بل أتاحت للدكتور علي الكواري فرصاً أخرى للإصلاح ولكن عبر النشاط الأهلي، فعاد لتنسيق أعمال (منتدى التنمية) وشارك في صياغة (مشروع الإطار العام لاستراتيجية التنمية والتكامل) وتقديمه لأمانة مجلس التعاون الخليجي، والتي تلكأت في رفعه لقيادات المجلس وقبلت به بعد ذلك على مضض. ولكن المشروع ما لبث أن تم ركنه جانباً، رغم ما حمله من رؤية ناضجة لتعويض ما فات من فرص التنمية ودفع منظومة مجلس التعاون لمرحلة تكاملية لعلها جنبتها الكثير من الأزمات التي عصفت بها وما زالت إلى اليوم.
ولم يكن الإصلاح في فكر الدكتور علي الكواري محصوراً في حدود وطنه ومحيطه الخليجي بل اتسع ليشمل كامل عالمه العربي. هذا ما دفعه للانصراف بكل تركيزه نحو الحرب العراقية الإيرانية، مستشعراً ما مثلته من فتنة عطلت المجتمع الأهلي العربي والإسلامي، فضلاً عن الخسائر المادية والبشرية التي تكبدها البلدان، مدركاً لوجود تدخلات دولية تعمد لإطالة الحرب تنفيذاً لمخططاتها الاستراتيجية في المنطقة. عمل الدكتور- انطلاقاً من إحساسه العميق بالمسؤولية وإيمانه بأهمية العمل الأهلي - على تكوين جماعة أهلية عربية تسعى لتعزيز جهود إيقاف الحرب العراقية الإيرانية، جمع تحت مظلتها الكثير من النخب السياسية والشخصيات العربية ذات الثقل المعنوي والمنتمية لأطياف فكرية متعددة، كمحمود رياض وخالد محي الدين والشيخ محمد الغزالي والدكتور أحمد كمال أبو المجد وأمين هويدي (مصر)، والدكتور أحمد صدقي الدجاني (فلسطين)، وعبدالرحمن اليوسفي (المغرب) وعبدالرحمن سوار الذهب (السودان)، وجاسم الصقر وأحمد السعدون (الكويت)، ورسول الجشي (البحرين)، ومنح الصلح (لبنان) وجمال الشاعر (الأردن) وغيرهم. وعلى خط موازٍ، عمل الدكتور مع مجموعة من المثقفين والفاعلين في قطر على إنشاء صندوق لدعم جهود تلك الجماعة الأهلية في مرحلتها التأسيسية، والتي استمرت جهودها الدبلوماسية بشكل فاعل ومنهجي إلى حين إعلان وقف إطلاق النار. شكلت تلك الجماعة الأهلية نموذجاً للدور المنتظر من النخب السياسية وهيئات المجتمع المدني والمثقفين المستقلين في صناعة الرأي العام وتعزيز التضامن العربي، وكان لها أن تلعب أدواراً أكبر لولا ما حل بالعالم العربي من كارثة سياسية بعد احتلال الكويت. كارثة أتت على منجزات تلك المرحلة وأدت لتشظي الموقف العربي الرسمي والأهلي على حد سواء.
أما فلسطين فقد احتلت في ضمير الدكتور علي خليفة الكواري ووجدانه حيزاً مهماً جداً. هذا ما يفسر ارتباطه الوثيق بالقضية الفلسطينية عبر امتداد سيرته، وإيمانه التام بمركزيتها لكون الصراع العربي الصهيوني "صراع وجود بالنسبة للأمة العربية". لذا فعندما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، تحرك الدكتور على كل الخطوط المحلية والعربية داعماً لها. وكان من ثمار جهوده إنشاء (لجنة قطر الأهلية لمساندة الانتفاضة الفلسطينية) بمبادرة ذاتية انبرى لها إلى جانب الدكتور نخبة من الفنانين والأدباء والمثقفين القطريين "استجابةً للشعور بالمسؤولية القومية تجاه صمود الشعب العربي الفلسطيني على أرضه المحتلة". وثّق الدكتور العمل الأهلي المنظم الذي قامت به اللجنة للتوعية بالقضية الفلسطينية وتقديم الدعم المادي المتواضع للداخل الفلسطيني رغم محاولات احتواء السلطة لعمل اللجنة تارة والتحرك لإيقافها فعلياً تارة أخرى.
وعندما حلت كارثة غزو الكويت، كان وقعها عليه وعلى جميع أهل الخليج مؤلماً جداً. ولكن الملفت هو تعاليه على ذلك الألم وخروجه السريع من صدمة الحدث ونظرته الاستشرافية لمآلات الأحداث. وثق الدكتور في مذكراته مشاعر القلق والإحباط والغضب التي تلت تلك المرحلة المؤلمة، والدعوات الخليجية بالوحدة ضمن إطار إصلاحي شامل يضمن المشاركة السياسية الشعبية الفاعلة ويرسي قواعد البناء الدستوري. وكان من بين تلك المطالبات عريضة عام 1991 في قطر والتي كان من بين أهم ما دعت إليه "انتخاب أعضاء مجلس الشورى" وتكليفه "باعتباره جمعية تأسيسية بوضع دستور ديموقراطي دائم في قطر". فكان من نتائج التوقيع على هذه العريضة منع الدكتور من السفر والذي امتد إلى عام 1995.
رغم تشظي الموقف العربي وتجمد العمل الأهلي، ورغم ما حل به شخصياً من إمعان في الإقصاء والتضييق، إلا أنه لم يركن للإحباط ولا للغياب عن المشهد. بل على العكس، فقد كانت فرصة للتفكير بعمق في مآلات الأمور في العالم العربي، أعادت الدكتور إلى جذر المشاكل كلها "الاستبداد"، مؤمناً بأن "الديموقراطية الغائبة في جميع أرجاء العالم العربي هي طوق النجاة، وفقدانها هو مكمن الداء، والانتقال إليها هو مصدر الوقاية والعلاج". فصرف وقته لإرساء حوار أهلي حول أهمية وإمكانية الانتقال لنظم حكم ديموقراطية في العالم العربي، وتعزيز الجهود في تنمية طيف ديموقراطي داخل القوى السياسية العربية يؤدي إلى قيام كتلة تاريخية قادرة على الانتقال الديموقراطي. فكان تأسيسه مع رفيقه المرحوم رغيد الصلح لـ (مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية) في أوكسفورد والذي امتدت لقاءاته السنوية إلى عام 2010.
عبر فصول الجزئين المنشورين من مذكرات الدكتور علي خليفة الكواري، تبرز شخصية رجل الإصلاح الذي لا يعرف الهدوء ولا الاستسلام. فمن الهم المحلي إلى الشأن الخليجي فالعربي. ومن العمل الطلابي إلى قطاع النفط فالنشاط الأكاديمي. ومن التنمية وهموم النفط إلى الصراعات السياسية الإقليمية فنصرة القضية الفلسطينية، إنتهاءً بالدراسات الديموقراطية. عملٌ دؤوبٌ لا يعرف الكلل رغم كل الإحباطات والعراقيل. وإذا كان الدكتور محمد عابد الجابري قد وصف المفكرين العرب يوماً بأنهم "نجوم تتلألأ ولا تضيء"، فقارئ هذه المذكرات يرى في شخص الدكتور علي الكواري بوضوح "نجمةً تلألأت وأضاءت " ، ليس في نطاقها المحلي فقط بل في كامل محيطها العربي، على أجيال متعاقبة استلهمت - وما تزال - من تجربته الكثير من الدروس.
الدوحة 20/10/2019