أما حان وقت النظر في المستقبل بعد؟
تحية تقدير لعبد العزيز الصقر والى كل من أكد باسمهم أن "من أهم الثوابت التي ينبغي الالتزام بها في إعادة بناء البيت الكويتي. أولاً: المشاركة الشعبية القائمة على حرية الحوار، ورقابة التنفيذ ... ثانياً: إسلامية العقيدة ... ثالثاً: ان العروبة أصلنا، وهي قدرنا الذي لا نريد ولا نستطيع منه فكاكا...".
ان تأكيد أهل الكويت على هذه الثوابت في وقت المحنة وإصرارهم على عودة العمل بدستور 1962م، تعبر عن حكمة يجدر بنا ان نعي مغازيها العميقة. ولعل انعقاد القمة الحادية عشر لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة مناسبة طيبة توجب علينا أن نتوجه، بكل صدق وتجرد ومسئولية، إلى قادة دول المجلس و مناشدينهم مواجهة الأخطار الداهمة والتحديات المصيرية التي تهدد حاضر ومستقبل المنطقة، وذلك من خلال تبنى مشروع وحدة فدرالية دستورية، ترتكزعلى إصلاح جذري شامل يتناول الجوانب السياسية والاقتصاديةوالاجتماعية والثقافية. ان تبني مثل هذا المشروع أصبح ضرورة وجود بالنسبة لاهل المنطقة. والسبيل الوحيد لاستقرار بلدانهم بعد أن تضع أسس راسخة لأمنها الإقليمي في إطار انتماء عربي ونظام جديد فعال للأمن القومي العربي. كما يجب التأكيد بأن عملية التنمية المستقلة المعتمدة أساسا على الذات يستحيل القيام بها في كل قطر من أقطار المجلس منفردا نتيجة لصغر حجم كل منها، واختلالها سكانيا، وغياب الحد الأدنى من مقومات بدء واستمرار عملية التنمية التي تنشدها شعوب المنطقة من أجل الاحتفاظ بمستوى معيشي معقول في عصر ما بعد الاعتماد على النفط. والى جانب ذلك كله – وهو كثير – فان مشروع الوحدة الفدرالية المرتكز على إصلاح شامل لمختلف نواحي الحياة في أقطار المنطقة، هو ايضا جواز مرور لولوج القرن الواحد والعشرين لما يتطلبه ذلك من إعادة بناء سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي في اتجاهين رئيسيين. أولهما: اتجاه الوحدة الإقليمية الدستورية ومثال أروبا الموحدة بعد عام 1992م، أبرز مثال. وثانيهما: اتجاه الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان، والربط الموضوعي بين المكافأة والجهد، بما يحقق العدل ويؤكد مبدأ المساواة ويسمح بتعبئة الموارد وإطلاق الطاقات، ويسمح باستقرار المجتمعات نتيجة لنمو قدرتها على إدارة اوجه الاختلاف بين المصالح وفيما بين الأفكار سلميا، وتجنب الصراعات المدمرة التي لا يجني الأفراد منها طائل دع عنك الدول والمجتمعات. ان عالم اليوم بفضل سرعة الاتصالات، وتطور وسائل المواصلات، اصبح قرية كبيرة لا يمكن عزل أي جزء منه عما يحدث من تغييرات جذرية في مختلف أرجاء المعمورة. ولعل التحولات التي شهدها العالم حديثا نحو الديمقراطية في أوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي إضافة إلى العديد من الدول النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، تؤكد ان المنهج الديمقراطي ورعاية حقوق الإنسان هما مقومات استقرار المجتمعات وسبيلها إلى تحقيق الأمن والتنمية. وهما بالنسبة لنا في الخليج، إلى جانب قيام اتحاد فيدرالي بين دول المنطقة، السبيل الوحيد إلى الاستقرار القائم على العدل والحائز على إمكانيات النمو ومقومات الأمان.
وتوفير الوقت الحكومات المنطقة وحرصا على البدء منذ اللحظة، وقبل فوات فرص ثمينة أجدنى، أميل إلى الإيجاز وإحالة كل من يحرص على مراكمة الدراسات على الرفوف, إلى من هو موجود منها بالفعل في ملفات الأمانة العامة للمجلس، وأرشيفات الإدارات الحكومية، وفي أدبيات التنمية والوحدة والمشاركة السياسية. إنني اعتقد جازما ان ما ينقصنا لتحقيق الوحدة والمشاركة والتنمية يتمثل أساساً في إرادة التنفيذ وليس في نقص القدرة الفنية على كتابة الدراسات أو تقديم المتقرحات. ان قضيتنا هي قضية وجود إرادة سياسية وإرادة مجتمعية للوحدة والمشاركة والتنمية الشاملة ... أما إدارة ذلك فأنها مسالة فنية نحن قادرون عليها بإذن الله.
ويحضرني في هذا الصدد قول يردده السياسي العربي المخضرم الأستاذ محمود رياض كلما سمع من يطالب بمشروع أو استراتيجية أو خطة أو اتفاقية لمواجهة شان عربي, إذ يؤكد لمن يطرح ذلك، ان القضية بالنسبة لمواجهة مجمل المعضلات العربية تكمن في وجود إرادة التنفيذ عند من بيدهم اتخاذ القرارات، وليست المسألة مسالة وجود أفكار سليمة أو صياغة ملائمة. وانطلاقا من ذلك فأنني لن افصل في المقترحات واكتفي بإيجاز متطلبات التنفيذ العاجل. ضارعا إلى الله ان تجد الأفكار المطروحة ما يستحقه المستقبل من اهتمام المجلس الوزاري والمجلس الأعلى لدول مجلس التعاون.
وأول متطلبات التحولات المنشودة لتحقيق أمن وتنمية المنطقة تتمثل في قرار يصدر من المجلس الأعلى في دورته الراهنة، أو في دورة استثنائية عاجلة، تعقد من اجل إعلان الوحدة الفدرالية تطبيقا لما ورد في ديباجة النظام الأساسي للمجلس حيث أشير إلى ان دول المنطقة أسست مجلس التعاون"إيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها". ..."واستكمالا لما بدأته من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وتحقق طموحاتها نحو مستقبل افضل وصولا إلى وحدة دولها".
وثاني هذه المتطلبات تتمثل في إقرار منهج الديمقراطية أساسا لنظام الحكم في الدولة الاتحادية والاحتكام إلى شرعية دستورية. ولعل المبادئ التي قام عليها دستور الكويت لعام 1962م، ودستور البحرين لعام 1972م، تصلح لان تكون أسس لإعداد الدستور الاتحادي، الذي يتم وضعه من قبل جمعية تأسيسية اتحادية منتخبة، في ضوء الشريعة الإسلامية السمحة، ووفق مبادئ الشورى الملزمة التي تمثل الأصل الجوهري في نظام الحكم الإسلامي. فالشورى في الإسلام ملزمة فيما لانص فيه أو فيه نص غير قطعي الدلالة.
والى جانب هاتين الركيزتين اللتين تشكلان أساس مشروع الوحدة الفدرالية والإصلاح السياسي المنشود في دول مجلس التعاون هناك عدد من الأمور الملحة التي تحتاج إلى قرار سياسي من قبل المجلس الأعلى: أولها: وقف الهجرة الأجنبية إلى المنطقة، واتخاذ إجراءات عاجلة لاصلاح الخلل السكاني، الذي يهدد بتغيير التركيبة السكانية لمجتمعات المنطقة لغير صالح هويتها العربية الإسلامية، ويتيح لأي طامع في المنطقة وجود طابورا خامسا وكتل بشرية تستفيد من تحقيق مطامعه. ثانيها: تبني استراتيجية للتنمية الشاملة، تسمح للمنطقة ببدء عملية التنمية المنشودة لتصحيح البناء الاقتصادي والاجتماعي ورفع المستوى الثقافي والعلمي والتقني من اجل انتقال المنطقة تدريجيا، وقبل فوات الأوان، من عصر الاعتماد على النفط، إلى عصر الاعتماد على قدرات المواطن. ان الاعتماد على قدرات وطاقات المواطنين بعد الاعتماد على الله والحظوة بتوفيقه هو صمام الأمان لمواجهة المستقبل. ولعل استراتيجية التنمية الشاملة في إطار وحدة أقطار مجلس التعاون وتكاملها مع بقية الأقطار العربية، والتي قام بإعدادها مهتمون بعملية التنمية في المنطقة بناء على طلب مجلس التعاون، وتقدمت بها الأمانة العامة للمجلس في عام 1983م، إلى اجتماع وزراء التخطيط، مازالت تصلح أساسا لاستراتيجية التنمية المنشودة في المنطقة. ثالثها: تأكيد عقيدة مجتمعات المنطقة وانتمائها بما يجعل هذا التأكيد معيارا لاختبار سلامة المسار وتحديد الانتماء والاتجاه. فالإسلام والعروبة هما بمثابة الروح والجسد لكل مجتمع من مجتمعات المنطقة العربية وأي فصل بينهما هو فصل مصطنع يهدف إلى أضعافهما سويا.
وبعد, أما آن الوقت للنظر في المستقبل وإعداد العدة لمواجهته؟ ان مستقبل الأجيال وصيانة أمن المجتمعات أمانه فطوبى لمن عمل من اجل أداء الأمانة.