الأهداف الوطنية الكبرى ومكانة الديمقراطية بينها - حالة أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية -

تأتي هذه المقالة في سياق الحوار الجاري حول استشراف مستقبل الديمقراطية وتنمية رؤية مستقبلية مشتركة لتعزيز المساعي الديمقراطية في أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والذي بدأ في اللقاء الثاني والعشرون لمنتدى التنمية الذي انعقد في دبي في الفترة من 1-2 فبراير 2001. وفي هذه المقالة سوف نتناول الأهداف الوطنية الكبرى المشتركة في دول المنطقة ومكانة الديمقراطية بينها.

*************

الاهداف هي البوصلة التي تسترشد بها أية رؤية مستقبلية . ولذلك فإن أول العناصر التي لابد من تحديدها في أي رؤية مستقبلية وطنية ، هي الأهداف الوطنية الكبرى التي تسعى إلى تحقيقها. فما هي الأهداف التي تسعى الرؤية المستقبلية لتعزيز المساعي الديمقراطية في المنطقة إلى تحقيقها ؟ وهل يمكن تحقيق هذه الأهداف في معزل عن قيام نظم حكم ديمقراطية في دول المنطقة؟ او لم يكن غياب المشاركة السياسية الفعالة لشعوب المنطقة في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات سببا رئيسياً في عدم نجاح دول المنطقة في تحقيق الاهداف الوطنية في العقدين الماضيين؟

يمكن اختصار الأهداف الوطنية الكبرى في ضوء محصلة التجارب السياسية في دول المنطقة والبنى التي أسفرت عنها وأوجه الخلل التي تعاني منها، في أربعة أبعاد متداخلة ومتكاملة هي التنمية والأمن والمشاركة السياسية الفعالة والاندماج الإقليمي في إطار التكامل العربي. وقد تم تفصيل هذه الأبعاد في الرؤية الاستراتيجية التي تم إعدادها، بناء على طلب مجلس التعاون في عام 1983. حيث تم الانطلاق من إحدى عشر غاية تهدف استراتيجية التنمية والتكامل إلى بلوغها لمواجهة ثمان تحديات تم الاتفاق على وجودها المشترك في دول المنطقة .

وقد اقترحت الاستراتيجية –آن ذاك- باعتبارها إطار عام لخطط التنمية في كل من دول المنطقة ، ثمانية أهداف استراتيجية عاجلة . أربعة منها تتعلق بتصحيح المسار: أولها : تخفيض الاعتماد على النفط وإخضاع إنتاجه لاعتبارات التنمية . وثانيها: تخفيض حجم قوة العمل الوافدة وتعديل تركيبها وتحسين نوعيتها . وثالثها: إخضاع النفقات العامة لمعايير الجدوى الاقتصادية . ورابعها: إصلاح الإدارة الراهنة وتنميتها. كما كانت الأهداف الأربعة الأخرى من الخامس إلى الثامن مختصة ببدء عملية التنمية الشاملة المستدامة ذات البعد الإنساني : أولها: بناء قاعدة اقتصادية بديلة . وثانيها: بناء قاعدة علمية تقنية ذاتية متطورة . وثالثها : إصلاح التعليم وربطه بمتطلبات التنمية. ورابعها: توفير البيئة الملائمة لتنمية ثقافية واجتماعية مستمرة . وقد تم اختتام الوثيقة المتضمنة تلك الرؤية الاستراتيجية،  بذكر متطلبات التنفيذ ومنها الإشارة إلى الإصلاحات السياسية والإدارية المطلوبة على المستوى الإقليمي وفي كل دولة من دول مجلس التعاون.

وجدير بالذكر إن تلك الاستراتيجية ساهم في وضعها ومناقشتها اكثر من مائة من أبناء المنطقة وشارك فيها خبراء عرب وعقدت من اجلها ندوتان على مدى عام كامل وتم نشرها في كتاب لي تحت عنوان "نحو استراتيجية بديلة للتنمية الشاملة" صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1985. ومما يؤسف له إن مجلس وزراء التخطيط –آن ذاك- رفض مناقشتها عندما عرضتها الأمانة العامة لمجلس التعاون عليه في آذار 1984، بسبب تطرقها إلى الأبعاد السياسية والثقافية والاجتماعية لعملية التنمية وعدم وقوفها عند حدود المشاريع الاقتصادية المشتركة فقط.

واليوم حين نعود إلى تحرى الأهداف الوطنية المشتركة لدول المنطقة فأننا نجد أن " مشروع الملامح العامة لاستراتيجية التنمية والتكامل" ما زال يحمل توصيفا للأهداف الوطنية المشتركة لدول المنطقة. ربما تحتاج الوثيقة التي أعدت عام 1983 إلى تنقيح وتطوير ولكنها مازالت تنتظر إرادة التنفيذ . وهي في أساسها صالحة تتضمن الغايات وتذكر التحديات وتشير إلى الإمكانيات وتخلص إلى الأهداف الاستراتيجية ومتطلبات التنفيذ . ولعل ما نحتاج إليه اليوم هو إرادة التنفيذ التي – مع الأسف- كنا نفتقدها في دولنا عندما صدرت تلك الوثيقة . ولعل سبب عدم الالتفات إلى تلك الاستراتيجية يعود إلى غياب الديمقراطية وعدم الاستعداد لقبول المشاركة الفكرية في تحديد الخيارات الوطنية. ومن هنا ، فأهداف اليوم مازالت في أساسها هي أهداف الأمس. كما ان تطبيقها اليوم يحتاج الى ما نحتاجه اليوم كما كنا نفتقده بالامس وهو الديمقراطية باعتبارها عملية سياسية تتيح للشعوب دوراً في تحديد الخيارات الوطنية والمشاركة السياسية الفعالة في اتخاذ القرارات الملزمة لها والتي يتوقف عليها تحقيق الاهداف الوطنية من عدمه في المستقبل المنظور. ويمكن إجمال وتركيز الأهداف الوطنية الملحة التي يتطلب التوجه الى تحقيقها بشكل عاجل في الأهداف الكبرى التالية:

1- إقرار مبدأ المواطنة المتساوية والعمل به

وذلك تحقيقا للمساواة والعدل والإنصاف ومن اجل تعميق شعور الانتماء وتحقيق الاندماج الوطني وتعزيز الروح الوطنية عندما تتوفر الشروط القانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحقق الولاء وتمكن المواطن من أداء واجبات المواطنة وضمان حقوقها . وتحقيق هذا الهدف يقتضي . أولا: إصلاح الخلل السكاني تدريجيا والتعامل بشكل إنساني مع متطلبات ذلك الإصلاح بما في ذلك التعويض على المتأثرين من تطبيقه. وثانيا: إعادة الاعتبار لدور المواطنين باعتبارهم التيار الرئيسي في المجتمع، من خلال تنمية قدراتهم التنافسية والربط تدريجيا بين المكافئة والجهد والإنتاجية، وتمكينهم من المشاركة السياسية الفعالة. وثالثا: المساواة بين المواطنين دون تمييز ذكورا وإناث على ارض الواقع في الفرص والمكانة الاجتماعية. وذلك من خلال معالجة النظرة الدونية للمرأة ولبعض فئات المواطنين فضلا عن الحد من الامتيازات الوراثية للنخب الحاكمة من حيث المكانة البرتوكولية ومن حيث الرواتب والمخصصات وادعاء الحق الخاص في المال العام، أو الأفضلية في تولي المناصب العامة واحتكار النفوذ في القطاع الخاص وفي منظمات المجتمع المدني الحديث. رابعا: استيعاب المتجنسين الجدد وإدماجهم في التيار الرئيسي في المجتمع والقضاء على مظاهر السلبية لدى الآخرين تجاههم، والحد من مظاهر طغيان التوجه إلى الحقوق الاقتصادية وامتيازات قطاع الأعمال –لدى البعض منهم – دون تحمل واجبات المواطنة والارتباط المصيري بالمجتمعات التي اكتسبوا جنسياتها.

2- التمهيد لبدء عملية تنمية شاملة مستدامة ذات بعد إنساني

وهذا يقتضي : أولا : إخضاع النفط والغاز الطبيعي من حيث عائداته وإمكانياته الصناعية وصادراته لاعتبارات المصلحة الوطنية دون قصد الإضرار بالمصالح المشروعة للأطراف الأخرى المعنية بالنفط وذلك في إطار اعتماد متبادل ، إرادي وعادل. ثانيا : إصلاح توجهات الميزانية العامة وتطوير سياساتها بهدف إخضاع النفقات العامة لمعايير الجدوى واعتبارات العدالة . ثالثا: الشروع في بناء قاعدة اقتصادية بديلة تستفيد من إمكانيات النفط من اجل إعداد اقتصاديات المنطقة تدريجيا لعصر ما بعد الاعتماد على ريع النفط . وذلك من خلال تنمية نشاطات إنتاجية ذات جدوى اقتصادية يشارك فيها القطاع الخاص الوطني، قادرة على تحويل الميزات النسبية التي يتيحها النفط والغاز الطبيعي في الوقت الحاضر للمنطقة إلى ميزات تنافسية قادرة على الصمود في وجه تحديات العولمة والانفتاح الاقتصادي ومقتضيات اتفاقيات منظمة التجارة الدولية . رابعا: تصحيح التوجهات الطفيلية الراهنة للقطاع الخاص وتنمية قدراته الإيجابية وتعزيز سعيه للاستثمار في القطاعات ذات الجدوى الاقتصادية ومنها قطاع الصناعات النفطية التي تتمتع بميزات نسبية يوفرها وجود الغاز الطبيعي والنفط في المنطقة . خامسا : إصلاح إدارة المشروعات العامة وتعزيز توجهاتها الاقتصادية والإنتاجية من اجل تنمية القطاع العام وتمكينه من استثمار جزء من ريع النفط لما فيه صالح الأجيال القادمة تحقيقاً للعدالة بين الأجيال . سادسا: العمل على عودة الاستثمارات الخارجية للمواطنين وتوفير البيئة القانونية لحماية استثمارها في الداخل.

3- بناء مقومات الأمن الوطني

وهذا يقتضي تنمية الاعتماد الإقليمي على الذات في إطار النظام العربي الإقليمي بعد تطويره وترشيده. ولتحقيق ذلك لابد من الانتقال من اوهام الاعتماد على الحماية العسكرية الأجنبية إلى بناء قدرة دفاعية من خلال كيان سياسي فدرالي موحد يبدأ بمجلس التعاون ويمتد إلى دول الجوار العربي ويرتبط بنظام إقليمي عربي وإسلامي للأمن والاستقرار وعدم الاعتداء . كما يقتضي توظيف الدبلوماسية وحسن علاقات الجوار من ناحية والتفاهم بين الحكومات والشعوب من ناحية أخرى حتى يتم بناء الثقة في الترتيبات الإقليمية والوطنية وتنتفي الحاجة إلى القوات الأجنبية. ان المدخل الحقيقي لبناء مقومات الامن الوطني لكل دولة ولدول المنطقة مجتمعها يتمثل في قدرة القيادة السياسية ورغبتها في القيام بمصالحتي . اولهما: مصالحة كل حكومة مع شعبها . وثانيهما: مصالحة كل دولة مع جاراتها . كما يتوقف على قدرة الحكومات على اخضاع خيارتها وقرارتها لأعتبارين: اولهما: اعتبار المصلحة العامة عبر الاجيال. وثانيهما: اخضاع الخيارات الوطنية والقرارات العاملة للحوار العقلاني الذي يسمح بكشف كل الحقائق ويستمع الى كل الأراء.

4- إصلاح إدارة الدولة والمجتمع وإقامة الحكم الرشيد

وهذا يقتضي . أولا: إصلاح الإدارة السياسية وترشيد عملية اتخاذ القرارات وتوسيع دائرة المشاركين فيها. ثانيا: إصلاح الإدارة العامة وتنمية نظمها وأجهزتها وإعداد كوادرها المهنية والفنية من بين المواطنين دون تميز ، مع وجود حصانة للموظف العام. وذلك في إطار الحاجة الملحة لمواجهة الدور المتغير، ولكن المتعاظم الأهمية، للإدارة العامة في مجال التوجيه والتخطيط الاستراتيجي التأشيري، وفي مجال الرقابة والضبط وإدارة النشاطات في ضوء اعتبارات رعاية المصلحة العامة وحمايتها من اللاعبين الماهرين المنتهزين للفرص الذي دفعت بهم إلى الساحة الوطنية سياسات الانفتاح الاقتصادي وعززت وجودهم اتفاقيات التجارة الدولية والدور المتعاظم للشركات عابرة القارات في عصر العولمة التي تفتح مجال الهيمنة في الدولة التي تفتقر إلى إدارة عامة على مستوى الوظائف التوجيهية والرقابية المطلوب القيام بها في عصر العولمة. وثالثا: تغيير الموقف السلبي تجاه المجتمع وكفالة حرية التنظيم. وهذا يقتضي النظر في قوانين جمعيات النفع العام وإصدار قوانين ديمقراطية للأحزاب والنقابات والجمعيات الثقافية والفكرية والمهنية تسمح بقيامها وتضمن حرية التعبير والتنظيم على ارض الواقع حتى يتكون المجتمع المدني المشارك وينمو الرأي العام المستنير والفعال . رابعا: إصلاح نظام التعليم العام والخاص جذريا وكذلك إطلاق حرية الإعلام وتبادل المعلومات في إطار القانون، وذلك باتجاه بناء الإنسان وتنمية قدراته وإطلاق طاقاته من خلال تعزيز دور العقل وأعلى شأن التوجهات الوطنية وترسيخ قيم الإنتاج والإبداع والقضى على الازدواجية في الشخصية وإصلاح ما أصابها من انفصام.

5- التوافق على دستور ديمقراطي

وهذا يقتضي إرساء أسس شرعية دستورية غير قابلة للتعطيل وذلك من اجل بدء عملية التحول الديمقراطية وإدارة اوجه الاختلاف في الآراء والاجتهادات والتعارض في المصالح بشكل سلمي . ويتم ذلك بإرساء منهج سياسي يمكنه التعبير عن المصلحة العامة بشكل اكثر موضوعية عندما يتم النظر إلى الدولة باعتبارها مؤسسة تقف من جميع المواطنين على مسافة واحدة . وعندما يتم الفصل بين أشخاص الحكام وشخصية الدولة والمصالح الشخصية والمصالح العامة التي يجب على الدولة أن تمثلها ، ويتم ضبط الحدود بين المالية العامة والملكية العامة وبين ما هو مال خاص وملكية شخصية، كما يوضع حدا لاستخدام النفوذ العام من اجل المصلحة الشخصية.

6- مكانة الديمقراطية بين الأهداف الوطنية الكبرى

أهمية الديمقراطية وإمكانياتها في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى ومكانتها المركزية تتعدى كونها غاية وهدف من سائر الأهداف، إلى كونها وسيلة وأداة ومنهج سياسي ونظام حكم يساعد اكثر من غيره من نظم الحكم على تحقيق الأهداف الوطنية . وهذا ما يميز الدولة الديمقراطية اليوم عن غيرها من نظم الحكم البديلة التي مهما كانت نواياها طيبة في مرحلة من المراحل فأنها محكومة بحتمية ابن خلدون، ولابد لها من الزوال عندما تفقد العصبية الكافية. أما الدولة الديمقراطية فأن عصبيتها هي الشعب من خلال التعاقد المجتمعي المتجدد. ولذلك فقد أثبتت قدرتها على التطور والتكيف مع طموحات الشعوب، تعبيرا عن قدرتها النسبية على استمرار عملية التنمية الشاملة المستدامة، بسبب تمثيلها لآراء مواطنيها ومصالحهم بشكل متجدد عبر العصور والأجيال. ويعود ذلك إلى تجديد الدولة الديمقراطية لقياداتها السياسية والمهنية والاجتماعية وتجديد رؤيتها وتوسيع خياراتها بسبب وجود الحرية وبفضل الحراك السياسي والاجتماعي وتداول السلطة نتيجة لوجود المشاركة السياسية الفعالة في اتخاذ القرارات العامة الملزمة.

وجدير بالتأكيد أن الوصول إلى الأهداف الوطنية يمر عبر مداخل أربعة ذات تأثير على جميع المواطنين وتحتاج إلى مشاركتهم في الرأي وفي القرار: أولها: إصلاح الخلل السكاني. ثانيها: إصلاح الخلل الإنتاجي. ثالثها: توفير شروط الاندماج الوطني واعتبار المواطنة هي مصدر الحقوق ومناط الواجبات دون تميز بين المواطنين ذكورا وإناثا. رابعها: الاندماج الإقليمي في إطار التكامل العربي. وهذا الاندماج هو السبيل الوحيد الذي يحقق لكل من دول المنطقة الصغيرة كيانا اقتصاديا واجتماعيا قابلا للتنمية وكيانا عسكريا قادرا على توفير الحد الأدنى من متطلبات الأمن وامتلاك الإرادة الوطنية. ومثل هذا الكيان الإقليمي لا يمكن الاطمئنان إليه ألا إذا حكمت العلاقات الديمقراطية أطرافه حكاما ونخب حاكمة بالدرجة الأولى إضافة إلى حاجة الشعوب. فالحكام والشعوب لا يمكن أن يتنازلوا عن مواقعهم لعائلة حاكمة ولا لحاكم غير ديمقراطي . وبذلك لن يتحقق الاندماج الإقليمي كما لا يمكن ولوج أي من مداخل الإصلاح الجذري المطلوب ألا إذا أرسيت شرعية دستور ديمقراطي وتم العمل بمقتضاها على المستوى الوطني، وصولا إلى المستوى الإقليمي . ولعل تجربة مثل التجربة الماليزية تقدم نموذجا لمثل هذا الانتقال السلمي للديمقراطية والاتحاد الذي تحقق بموجبه للاتحاد الماليزي الاندماج الإقليمي لما فيه صالح أمن ونماء السلطنات والولايات الأربعة عشر المكونة للاتحاد الماليزي . ومن هنا تبرز لنا مكانة الديمقراطية –على المستوى الوطني والإقليمي- ويتأكد دورها في تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى . فالديمقراطية بالإضافة إلى كونها هدفا في حد ذاتها هي أيضا وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى الأخرى.