النفط ... والحكومات العربية ... والخيار "السهل الممتنع"

تواجه جميع الدول العربية وبدون استثناء ... النفطية منها وغير النفطية ... أوضاع اقتصادية حرجة ... تشكل أزمة اقتصادية هيكلية. لقد أصبحت الأوضاع الاقتصادية في الدول العربية تتسم بعجز القاعدة الإنتاجية في كل منها عن تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان ومنها الحاجة إلى فرص عمل ... تكفى لمقابلة حجم قوة العمل المتصاعدة ... وتواجه توقعات الشباب المتعلم وترضى طموحاته. كما يصاحب تلك الأوضاع انكشاف خطر على الخارج وبالتالي تبعية له نتيجة اعتماد جميع الدول العربية المتزايد على استيراد معظم احتياجاتها من الغذاء والسلاح والتكنولوجيا.

أوضاع تتسم بالنسبة للدول المصدرة للنفط بتراجع عايدات تصدير النفط منذ مطلع الثمانينات ... واستنضاب الاحتياطيات الاستثمارية التي تكونت في وقت الفائض لمواجهة عجوزات الموازنات العامة والتي تفاقمت منذ منتصف الثمانينات عندما لم تعد أجمالي الإيرادات النفطية تكفى لسد حاجات الصرف على الباب الأولى من النفقات العامة الخاص برواتب وأجور موظفي الحكومة(1). وتتجلى خطورة الأوضاع الاقتصادية الراهنة على الدول العربية المصدرة للبترول عندما ندرك هشاشة القاعدة الإنتاجية في معظم تلك الدول نتيجة الفشل في بناء قاعدة إنتاجية بديلة للنفط تغني نفسها تدريجيا عن الحاجة إلى استمرار  الدعم المالي المتدفق من عائدات النفط من اجل بقاء المشروعات القائمة. ويزيد يقيننا باستمرار تلك الأوضاع الاقتصادية الحرجة ما نعلمه من تأثير بالغ لاستراتيجية وكالة الطاقة الدولية على ظاهرة انحسار الطلب عن نفط الدول الأعضاء في الاوبك وعلى الأخص الدول العربية منها ... بقصد تحويل سوق النفط إلى سوق مشترين تتحكم وكالة الطاقة في إدارة أسعاره والاحتفاظ بها عند الحد الأدنى الذي يخدم مصالح الدول المستهلكة في المدى القريب والبعيد ... هذا في وقت يستمر فيه عجز الاوبك عن بلورة استراتيجية تسمح تدريجيا للدول الأعضاء فيها بتخفيض صادراتهم من النفط بالقدر الذي يحتفظ لسوق النفط بصفة سوق البائعين ... ويتيح للدول المصدرة للنفط ان تحصل من صادرات مواردها النفطية الناضبة ... والتي يحاصر التقدم التكنولوجي مستقبلها ... على سعر عادل باعتبار النفط بالنسبة للدول المستهلكة هو المزود الأخير لاسواق الطاقة (2). ومما لا شك فيه ان السياسات النفطية الراهنة للدول ذات التأثير على قرار الاوبك لن تتغير ... وحتى لو تغيرت فأن تأثيرها يحتاج إلى عقد من الزمن على الأقل ... الأمر الذي سوف يمكن استراتيجية وكالة الطاقة الدولية من السيطرة طوال ما تبقى من سنوات القرن العشرين ... وسوف تستمر في سيطرتها بعد ذلك إلى ان تصبح السياسات النفطية لمعظم الدول المصدرة للنفط، سياسات وطنية ذات توجهات تنموية تصحبها إرادة سياسية بالتنسيق مع اجل تعاون إنمائي يتفهم عدالته العالم اجمع.

وبالنسبة للدول العربية غير النفطية ايضا تطرح الأوضاع الاقتصادية الراهنة إشكالية مركبة تتمثل في فشل عملية النمو الاقتصادي فضلا عن انعكاسات الأوضاع في الدول العربية النفطية عليها. فالأوضاع الاقتصادية في الدول العربية غير النفطية تتسم بتآكل القاعدة الإنتاجية التقليدية ... وفشل الكثير من الخطط والمشروعات التنموية ... وعجزها عن إيجاد قاعدة اقتصادية حديثة تلبي الحاجات الأساسية للسكان التي زادت منها متطلبات مجارات العصر وارتفاع مستويات التعليم والانفتاح على الأنماط الاستهلاكية الجديدة في الخارج. ويزيد من حدة الأزمة الاقتصادية الراهنة ما اضطلعت به الحكومات العربية من مسئوليات المحافظة على مستوى الحد الأدنى للمعيشة وتوفير فرص العمل واعتماد النشاط الاقتصادي على حجم الأنفاق الحكومي الذي يتم تمويل جزء كبير منه من المعونات والقروض والتحويلات. وتتجلى خطورة هذه الأوضاع الاقتصادية غير المتوازنة في حالة الدول العربية غير النفطية عندما ندرك صعوبات استئناف عملية النمو الاقتصادي وحجم القروض الخارجية وأعباءها الاقتصادية والسياسية وما نتوقعه من تراجع المعونات والتحويلات والاستثمارات الخارجية في وقت يصعب فيه الاقتراض من الخارج بسبب العجز عن مواجهة أعباء الديون الراهنة وخدمتها.

ان الدول العربية جميعها مهدده نتيجة للازمة الهيكلية التي تواجه اقتصادياتها ... وقد تضطر إلى رهن حصيلة صادراتها النفطية إلى جانب إرادتها الوطنية لشراء بعض الوقت وتمويل النفقات العامة ... ما لم تتدارك نفسها وتقلع عن حالة الإدمان التي أصابتها وتبلور إرادة مجتمعية كافية للخروج منها.

ان النتيجة الهامة التي نستخلصها من بروز الازمة الاقتصادية الهيكلية في جميع الدول العربية وما يترتب عليها من استمرار الأوضاع الاقتصادية الحرجة الراهنة بظلها الثقيل تشير إلى أن الحكومات العربية لن تستطيع ان تواصل حكم شعوبها بأسلوب الدولة المستبدة الراعية "التي تصادر حق المشاركة السياسية مقابل توفير حد أدنى من مستوى المعيشة وفرص العمل والحراك الاجتماعي إضافة إلى قدره على شراء رضى سياسي كافي برصيد معنوي ثوري أو رصيد مادي مغري. ولذلك فان الوفاق السياسي الذي فرضته الحكومات على الشعوب العربية طوال فترة الطفرة النفطية ... وما صاحبها من تراجع المد الوطني لاسباب موضوعية ... لم يعد من الممكن توفير شروط استمراره في الوقت الحاضر والمستقبل المنظور. وبذلك ينشأ وضع جديد يمكن تسميته جوازا "بالوضع الثورى" ... حيث تجد الفئات الحاكمة نفسها عاجزة عن الاستمرار في الحكم بنفس أسلوب حكمها السابق. ولعل بروز أزمة هيكلية في جميع الدول العربية وتوقع استمرار الأوضاع الاقتصادية الحرجة ... باعتبارها أوضاع مقيمة بين ظهرانينا بظلها الثقيل وليست عابرة كما يتهيأ للبعض ... يطرح على الحكومات العربية خيارين.

أولهما: خيار إصلاح شامل يرتكز على مشاركة سياسية ويهدف إلى إعادة البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري في شكل رؤية ثقافية تغير المفاهيم وتصحح القيم وتعدل اعوجاج السلوك. إصلاح يقدم إجابات مقنعة مسئولة على الأسئلة الصعبة ويبدأ بترشيد التصرفات الأقل رشدا مهما كانت قوة ونفوذ مصدرها. إصلاح يرتكز على خطاب وطني يتسم بالصدق والعدل قادر على تعبئة الطاقات وحشد الإمكانيات وبلورة الاستراتيجيات ووضع الخطط والبرامج التي تضمن توزيع الأعباء بشكل عادل من أجل بدء عملية التنمية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة ذات البعد الحضاري والأفق القومي التكاملي. إصلاح يصل إلى عقول الناس ويمس مشاعرهم ... ينطلق من تحقيق مصالح المواطنين ... ويعتمد على جهودهم ... ويعود على مجتمعاتهم بالأمن والنماء والاستقرار في المدى البعيد. ومثل هذا الإصلاح الشامل لا بد له من أن يرتكز على عقد اجتماعي جديد تشارك الشعوب إلى جانب السلطات الحاكمة في الوصول إليه وترجمته إلى شرعية دستورية ملزمة تكفل حرية التعبير للرأي الأخر وتصون حكم القانون ونزاهة القضاء واستقلاله وتفتح تدريجيا الطريق إلى أسلوب تداول السلطة بشكل سلمي يحافظ على إنجازات المجتمعات العربية ويضع جهودها على الطريق الصحيح لعملية التراكم والرقي الحضاري.

وثانيهما: تراجع الحكومات العربية عن دور الدولة "الراعية " والتضحية بالرضى السياسي الذي لم يعد بالإمكان المحافظة عليه ... واللجوء إلى أجهزة الدعاية والأعلام لمزيد من تزييف الحقائق وتأجيل الوعي بالأزمة وتأخير عملية إدراك المجتمعات لابعادها وتصاعد القلق الموضوعي لتداعياتها ... معضدة ذلك كله بتحالفات خارجية ... واعتماد متزايد على أجهزة الأمن لضبط الأمور وقمع أصوات الاحتجاج وإسكات أجراس الإنذار المبكر ... التي لا بد من أن تتصاعد عندما يتدهور مستوى المعيشة ... وتنضب فرص العمل ... وتضيق مجالات الحراك الاجتماعي ... ويصعب شراء رضى سياسي كاف نتيجة استئثار أصحاب القوة والنفوذ وذوي القربى بما هو متاح من موارد شحيحة وفرص ضئيلة يعتقدون أنهم أولى بها من عموم الشعب.

الخياران مطروحان ... والحكمة المتحلية بالعدل وبعد النظر لا يفوتها أولاهما بالرعاية. فالإصلاح والمشاركة اللذان يؤديان إلى مجتمع الأمن والتنمية أولى بالرعاية من الضبط الأمني وقمع أصوات الإنذار المبكر ... التي إذا ما تم إخراسها فأن تداعيات الأزمة الاقتصادية الهيكلية لا يمكن حجبها ... وسوف تبرز في شكل انفجار تخسر نتيجة له الفئات الحاكمة كل شيء ولا تستفيد منه الشعوب الكثير نتيجة لتفكك السلطة واضطراب الأوضاع والحاجة إلى حكمة جيل آخر لمعالجة آثارها. ان خيار الإصلاح الشامل والمشاركة السياسية بهدف إعادة البناء هو شعار الحقبة الزمنية الراهنة ... يتردد في أرجاء المعمورة وعلى امتداد التيارات الفكرية والعقائدية المتصارعة ... ولكنه وياللاسف لم تبدأ عملية إدراك أهميته بالنسبة لاغلب الحكومات العربية بالرغم من بروز بدايات وعي بأهميته ذلك لدى عدد قليل من الفئات الحاكمة في بعض الأقطار العربية. ان خيار الإصلاح الشامل المرتكز على المشاركة السياسية مثل الأدب الجيد ... "سهل ممتنع" يحتاج إلى مبدع ذو موهبة وتجربة وخبرة ناضجة يعبران عن رؤية مستقبلية وحكمة سياسية أمتنا العربية في أمس الحاجة لتوظيفها من أجل بدء مسيرة إعادة البناء. ان تبنى قضية الإصلاح الشامل المرتكز على المشاركة السياسية ليست ضرورة مجتمعية فحسب بل هي ضرورة لاستمرار سلطة الحكومات العربية إذا ما اختارت تغيير منهج حكمها وتبنت هذه المرة خيار الإصلاح والمشاركة من أجل إعادة البناء ... بعد ان اصبح شرط إعادة البناء واجبا على من يريد ان يلج القرن الواحد والعشرين بما فيه من تحديات لن يتاح لشعب أو أمه ان تواجهها ما لم تبدأ عملية إعادة البناء من الآن وقبل فوات الأوان.

والله من وراء القصد